مدخل عام
يرتبط تاريخ الصحافة ارتباطا وثيقا بالتاريخ العام لتطور المجتمعات، وربما تعد الصحافة، من حيث تطورها، الأكثر ارتباطا بالحالة السياسية والوضعية الاقتصادية والتنظيم الاجتماعي والمستوى الثقافي للبلد وللحقبة التي توجد فيها
. ويمكن اعتبار تاريخ الصحافة كنوع من العلم المساعد للتاريخ الحديث والمعاصر. فالصحافة تشكل نوعا من الأرشيف للأحداث اليومية وتوفر مصدرا هاما للأخبار يفيد التاريخ المعاصر من حيث تنوع الصحافة وتقاطع مصادرها وتكاملها ضمن التنوع…ويسمح تاريخ الصحافة، من جهة، بمعرفة حياة الجرائد الخاضعة للدراسة ودورها في تطور المجتمعات، كما يساعد المؤرخين على استعمال شهادة الصحف والتي تكون غالبا مرتبطة بالأحداث بشكل مباشر وحال وقوعها.
تعتبر الحاجة للخبر من المعطيات الأساسية لكل حياة اجتماعية
. وقد أدى فضول الجمهور وتوقه لمعرفة ما يدور حوله إلى ازدهار مختلف أصناف الرواة الذين عرفتهم المجتمعات الإنسانية على امتداد العصور. وعرفت الحضارة اليونانية ظهور رواة عملوا، ضمن منطق ومفاهيم حقبهم التاريخية، على نقل الوقائع التي شاهدوها أو التي انتهت إلى مسامعهم. كما أن "التروبادور"(troubadours) لعبوا نفس الدور في أوربا القرون الوسطى. وماثلهم في الدور رواة الأدغال الإفريقية (Les griots) الذين كانوا يقومون بدور تواصلي وإخباري هام. وشكل هاجس الحفاظ على رواية الأحداث الكبرى أو اكتشاف عوالم أخرى، من هوميروس إلى رواة نهاية القرون الوسطى، ومن هيرودوت إلى ماركو بولو، خير حافز لظهور إنتاجات تشبه، بتصرف طبعا، الريبورتاجات الصادرة في الحالية.
وقد أنشأت إدارات العصور القديمة
(Antiquité) كما العصر الوسيط، شبكات لجمع ونشر الأخبار. وكانت هذه الشبكات تتكلف بإيصال المعلومات، شفويا أو كتابيا، قبل إذاعتها وسط الجمهور الواسع من خلال "البراح" أو الملصقات الحائطية. وفي كل الحضارات التي عرفت الكتابة، وعلى هامش القنوات "الرسمية"، شكلت المراسلات الخاصة ما بين الجماعات المنظمة ورجال الأعمال والشخصيات النافذة، مصدر أخبار دورية كانت تتجاوز الإطار الضيق للعلاقات الشخصية والمهنية.
وإذا كان من الممكن إيجاد أشكال قديمة من
"الصحافة" و"الصحفيين" في كل الحضارات والمجتمعات المنظمة القديمة، فإن هذا لا يعني أن هناك علاقة ما بين هذه الأشكال البدائية لتداول الأخبار والمعلومات وما بين الصحافة الدورية المعاصرة التي ظهرت في ظروف ذات خاصيات واضحة.
فلقد عرفت روما ما سمي ب
«Acta publica " وكانت عبارة عن نشر محضر اجتماعات "Sénat " أو "مجلس الشيوخ" الروماني، كما عرفت صدور " Acta diurna" وكانت عبارة عن أوراق إخبارية للحياة الرومانية تتكلف بنقلها ونسخها هيئات متخصصة انتشرت داخل الفئات الغنية، وقد كان الكتاب " Actuarii" الذين يقومون بصياغتها عبارة عن قصاصين فعليين.
كما عرفت الصين، مع نهاية القرن التاسع صدور صحيفة في بلاط بكين
1
, سميت ب"Kin Pau "، كانت تصدر بصفة شهرية ثم تحولت إلى أسبوعية ابتداء من سنة 1361 وإلى يومية في عام 1830.- الحاجة الجديدة للأخبار :
انطلاقا من القرن الخامس عشر اجتمعت العديد من العوامل السياسية والاقتصادية والفكرية لتنتج تعطشا كبيرا للأخبار في الغرب
. فلقد جاءت الاكتشافات الكبرى لتوسع الأفق الأوربي. كما أن تطور المعاملات البنكية والتجارية أدت إلى النمو الموازي لتبادل الأخبار والمعلومات. وأصبحت الدول الحديثة الجديدة تطالب إداراتها بخلق شبكات فعالة وجديدة للأخبار. كما شجعت النزاعات الكبرى التي مزقت الغرب الأوربي في القرن السادس عشر على تدعيم الرغبة في توفر الأخبار.
وأصبحت الدول الحديثة التي ظهرت للوجود في تلك الفترة أكثر ضمانا لأمن وانتظام الاتصالات
2
( les communications). وظهرت المصالح البريدية في كل من فرنسا تحت حكم لويس الرابع عشر (سنة 1464)؛ وفي انجلترا في عهد إدوارد الرابع (سنة 1478)؛ وفي الإمبراطورية الجرمانية سنة 1502. - ظهور المطبعة :
اخترع غوتنبرغ التيبوغرافيا
(Typographie)، أي التصفيف بالحروف المصنوعة من مادة الرصاص (Plomb ) بمدينة ستراسبورغ، سنة 1438. وقد سمح اللجوء إليها في النصف الثاني من القرن الخامس عشر بالنسخ السريع والكثيف للنصوص مما أعطى للمطبوعات حظوظا أكبر في الانتشار لم تكن تتوفر لها من ذي قبل. لكن الصحافة الدورية المطبوعة لم تظهر سوى قرن ونصف بعد هذا التاريخ. وقد سبقتها للظهور العديد من المطبوعات التي حملت أخبارا ومعلومات شتى.
فمنذ مطلع القرن الرابع عشر على الأقل تحولت القصص
"les nouvelles " إلى سلعة حقيقية وصار القصاصون "les nouvellistes " يؤدون خدمات منتظمة من المراسلات المكتوبة. هذه القصص المكتوبة بخط اليد تركت كبير الأثر في أوربا، وقد عرفت رواجا كبيرا ابتداء من القرن السادس عشر.
وانطلاقا من القرن الخامس عشر، شرع المطبعيين في نشر قصص تحكي عن حدث مهم ما
(معركة أو جنازة ملكية أو حفلات…الخ) على شكل كتيبات صغيرة من 4 أو 8 أو 16 صفحة. وكانت هذه الوريقات تباع في المكتبات أو مباشرة في الأسواق في المدن الكبرى. وكانت تسمى "Relationes " باللاتينية، و"Occasionnels " في فرنسا، و"Seitnugen " في ألمانيا، و"Gazetas/Corantas " في إيطاليا.
وقد ظهرت
"les canards " فيما بعد وشكلت نوعا آخر من النشرات الإخبارية "feuilles volantes ". وكانت علاقتها مع الأحداث الآنية بعيدة بعض الشيء، واقتصرت على نقل الأحداث الخارقة والجرائم و الكوارث وكل الأحداث ذات الطابع الاستثنائي. وظهر أقدم هذه المنشورات في فرنسا، سنة 1529.
مع بداية القرن السادس عشر نتج عن حركة الإصلاح والإصلاح المضاد
"la Réforme et la Contre Réforme "، صدور عدد هام من النشرات التي كانت تغذي الصراعات الدينية والسياسية, هذه الوريقات، وكانت تسمى "Libelles, Placards, Chansons… "، دفعت العديد من الدول الأوربية إلى تشديد قوانينها الرقابية على المطبوعات. فبالإضافة إلى الرقابة الدينية التقليدية للكنيسة، نصبت السلطات المدنية مراقبيها في ألمانيا سنة 1524، وفرنسا سنة 1537، وانجلترا سنة 1586. وخلال الحروب الدينية تعددت المتابعات في حق الناشرين وموزعي هذه النشرات.
وجسدت هذه النشرات، منذ البداية، الوظائف الأساسية الثلاث للصحافة
: نشر الأخبار حول الأحداث الكبرى، ثم تغطية الوقائع المجتمعية الصغرى "faits divers" والتعبير عن المواقف.
المطبوعات الدورية الأولى كانت هي
"َAlmanachs "،أي اليوميات، وكانت مشتقة من اليوميات الأولى التي كانت تطبع بمدينة مايونص "Mayence " بألمانيا ابتداء من سنة 1448. وظهرت اليوميات الفرنسية الأولى في سنة 1486. أما في ألمانيا قلد ظهرت نشرات منتظمة لسرد تتابع الأحداث "Chronologies "، والجرد السنوي أو نصف السنوي للأحداث، وكان وراء إصدارها "Michael von Aitzing " وسميت "Messrelationen "، بينما كان يتم إصدارها من فرانكفورت بمناسبة المعرضين السنويين لها، انطلاقا من سنة 1588. وفي فرنسا نشر "Palma de Cayet " ال"les Chronologies novennaires "(1589-1598) ثم "septentennaires "(1598-1604)؛ بعد ذلك تحولت إلى دورية سنوية ما بين عامي 1611 و 1648 تحت عنوان "Mercure de France ".
وقد عاشت الأشكال الأولى للنشرات غير الدورية
3
" almanachs ; canards ; chansons ;…" لفترة طويلة إلى أن أجهزت عليها الصحافة التي صارت تباع بأثمان منخفضة مع نهاية القرن التاسع عشر. وقد استمر تأثيرها واضحا على مستوى أسلوب الصحافة الشعبية التي اقتبست منها الكثير.- الصحف الأولى :
ومع مرور الزمن اجتمعت الشروط الملائمة لإنتاج الصحف
. ففي فبراير من سنة 1597 أصدر "Samuel Dilbaum" بأوغسبورغ " Augsburg"، شهرية على شكل حوليات " Chroniques". وفي أنفيرس " Anvers"، ببلجيكا، أصدر المطبعي "Abraham Verhoeve "، بتاريخ 17 مايو 1605 ( وإلى حدود 1607) نشرة نصف شهرية (les Nouvelles d’Anvers ") أصبحت تصدر بشكل غير منتظم فيما بعد. وفي سنة 1609، تم إصدار أسبوعيتين بمدينة ستراسبورغ، ثم صدرت بعدها نشرات مماثلة في كل من بال "Bâle" بسويسرا سنة 1610، وبفرانكفورت سنة 1615، وببرلين سنة 1617… وبلندن صدرت أول نشرة سنة 1622 "Weekly News from Italy, Germany, Hungaria, Bohemia, the Palatinate, France and the Low countries لصاحبها طوماس أرشير. في إيطاليا، ظهرت النشرات الدورية الأولى بفلورنسا سنة 1636 وبروما سنة 1640. أما بمدريد فلقد صدرت "la Gaceta " سنة 1661. وأسس بيار الأعظم "Pierre le Grand" أول نشرة روسية بسان بترسبورغ سنة 1703. وفي فرنسا، صدرت أول أسبوعية بباريس في يناير من سنة 1631، لصاحبها "Louis Vendosme"، وكانت تسمى "Nouvelles ordinaires de divers endroits"، لكن سرعان ما ابتلعتها "la Gazette" الصادرة في شهر مايو من نفس السنة، لصاحبها "Théophraste Renaudot".
4-
تقدم وتنوع الصحافة في القرنين السابع والثامن عشر :
حققت الصحافة تقدما هاما بالرغم من الرقابة السياسية
. فعلى مستوى المحتوى تجاوزت الصحافة الأخبار المجردة والجافة إلى مقالات تتضمن تعليقات تمس مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية؛ ثم ظهرت الصحافة المتخصصة على أرضية احتدام المنافسة ما بين الصحف. وما لبثت الصحافة أن اكتسبت قوة سياسية حسب خصوصيات كل دولة على حدا وبالرغم من أشكال الرقابة المفروضة عليها. وهكذا وجدت الصحافة نفسها في طليعة الصف الليبرالي وهي تدافع عن حريتها وحقها في الوجود.
لكن وعلى الرغم من هذا، لم تستطع الصحافة أن تأخذ المكانة التي تستحقها في أواخر القرن الثامن عشر، وظل الكتاب والكراس هما الوسيلتين المفضلتين للتعبير عن الأفكار
. وظلت الصحافة، كانعكاس للأحداث في موقف سلبي من حيث كونها تكتفي بنقل الخبر دون الدخول في معركة إعادة النظر في الوضع القائم. وكان كبار المفكرون ك"Rousseau" و"Diderot" و"Voltaire" ينظرون إليها بازدراء بالنظر لسطحيتها.
كان من اللازم انتظار ارتفاع وتيرة سير العالم، في الفترات الثورية على الأخص، لكي تأخذ الصحافة انطلاقتها بالنظر لتعطش الجمهور، الذي توسعت صفوفه، لمعرفة ما يدور حوله من أحداث تاريخية
. وهكذا أصبح نفوذ الصحافة يطال الحياة الاجتماعية كما الحياة السياسية، وذلك حسب خاصيات كل بلد، إذ تقوى هذا النفوذ بسرعة في انجلترا، بينما كان بطيئا بداية في فرنسا ثم تسارع إيقاعه فيما بعد، وظل بطيئا في أوربا الوسطى والجنوبية.
في انجلترا عرفت الفترة ما بين
1621 و 1791 تنامي نفوذ الصحافة إلى غاية تحولها إلى سلطة رابعة، وهي التسمية التي أطلقها عليها "Edmund Burke" سنة 1787. وكانت الصحافة الإنجليزية قد انخرطت في الصراع السياسي منذ القرن السابع عشر. وقد دعمت قوتها حدة المنافسة الموجودة آنذاك وأجواء الحرية النسبية التي كانت سائدة، وكذلك اهتمام القارئ المتعاظم بما يجري حوله من أحداث. وقد تمتعت الصحافة في انجلترا بنفوذ كبير انطلاقا من سنة 1695، أي سبع سنوات بعد الثورة التي أدت إلى تقلص سلطات الملك لفائدة توسع سلطات البرلمان. وظل الوضع على حاله لمدة قرن تقريبا بالرغم من المتابعات العديدة ومحاولة إرشاء الصحف من طرف الحكومات المتعاقبة.
وفي سنة
1712، وأمام انزعاج البرلمان من تعاظم نفوذ الصحافة، سن هذا الأخير العديد من الإجراءات الهادفة إلى تطويق الصحافة كحقوق التنبر المرتفعة التي أصبحت تثقل كل عدد من الصحف. لكن هذا لم يمنع عدد المبيعات من الارتفاع ما بين 1712 و1757. وبعد مقاومة كبيرة من طرفه، سمح البرلمان سنة 1771 للصحافة بنقل وقائع جلساته. وجاء قانون 1792، "Libel act"، ليحدد شروط متابعة الصحف ضمن قانون ليبرالي في شكله لكنه ضمن للحكومات ضغطا أكبر على الصحف.
في الولايات المتحدة الأمريكية ظهرت أول نشرة في شتنبر
1690 بمدينة بوسطن وسميت "The Public Occurences"، لكنها لم تتجاوز العدد الواحد؛ وتلتها فيما بعد "The Boston News Letter" سنة 1704 لكنها لم تعمر طويلا. وكانت النشرات الأمريكية في هذه الفترة، تقلد النشرات الإنجليزية، لكن توزيعها الضعيف مضافا إلى رقابة السلطات الإنجليزية جعلاها تعيش وضعية مزرية.
ولقد لعبت صحيفتان دورا مهما مع انطلاق الثورة في
1776، وهما "Boston Gazette" لصاحبها سام آدامس "Sam Adams" وعلى الأخص "Pennsylvania Magazine" لصاحبها طوماس باين "Thomas Paine". بعد انتصار الثورة صدرت اليوميات الأولى "Pennsylvania Packet" و"Americain Daily Advertiser". لكن ضعف الكثافة السكانية كان له تأثير سلبي على توزيع الصحف وانتشارها. أما حرية الصحافة فقد ضمنها البند الأول من الدستور الذي تم التصويت عليه سنة 1791. وستعرف الصحافة الأمريكية انطلاقتها الفعلية ابتداء من سنة 1830.
وفي ألمانيا، كان للرقابة دور هام في عدم تطور الصحافة في الفترة ما بين
1610 و1792. وقد أثرت الحروب كذلك في نفس الاتجاه السلبي بحيث كانت الأوراش المطبعية الكثيرة الموجودة تصلح لطباعة المنشورات الدعائية للأطراف المتنازعة عوض الصحف.
أما في فرنسا، فلقد عاشت الصحافة في ظل النظام القديم خاضعة لمبدأ الامتيازات وللموافقة القبلية قبل الصدور، مما جعل السلطات تتحكم في تطورها
. وقد كانت مراقبة السلطات تمتد من خلال تنظيم الحرفة وقوانين دقيقة تشمل كل مهن الطباعة والمكتبة. وقد ضمن هذا نوعا من الاستقرار بالنسبة للصحف المرخص لها بالصدور، بالنظر لضعف المنافسة. وقد حدت الرقابة كذلك من إمكانية تناول الصحافة للمواضيع السياسية، تاركة ذلك الأمر من اختصاص الصحافة الرسمية فقط التي كان لها حق الخوض في هذا المجال باحتياط كبير. وقد اتخذت الصحافة الفرنسية لكل هذه الأسباب طابعا أدبيا، مقارنة مع الصحافة الإنجليزية، سيظل يميزها في تطورها اللاحق.
وشكلت الثورة الفرنسية منعطفا حاسما في تاريخ الصحافة بهذا البلد
. فلقد سمحت الثورة بتطبيق المبادئ الكبرى لحرية الصحافة التي ستشكل جوهر مطالب الصحافيين في باقي بلدان العالم طوال القرن التاسع عشر. ولازال الفصل الحادي العشر من إعلان حقوق الإنسان، الصادر في 26 غشت 1789 يشكل أبرز تجسيد لمبدأ الحرية هذا. ويقول الإعلان: " التعبير الحر عن الفكر والآراء حق من الحقوق الأكثر أهمية بالنسبة للإنسان : لكل مواطن، إذن، الحق في الكلام والكتابة والنشر الحر، إلا إذا تنافت هذه الحرية مع مقتضيات القانون". كما تم إلغاء العمل بالنظام الحرفي الذي كان يعرقل سير المؤسسات الصحافية والمطبعية. ولقد أعطت مرحلة الثورة زخما هاما للصحافة لا يوازيه سوى الاهتمام الكبير الذي كان الناس يبدونه بالأحداث الكبرى التي تجري حولهم. وقد ظهر أكثر من 1500 عنوان صحافي ما بين سنتي 1789 و1800، مما يدل على القوة السياسية التي أصبحت للصحافة آنذاك، الشيء الذي سيعرضها لتقلبات الأحوال السياسية التي كانت تهز فرنسا طوال تلك الحقبة الغنية من تاريخها (مرحلة الرعب "la Terreur"، في سنوات 1792-1794؛ بونابرت؛…).
5-
الثورة الصناعية ودمقرطة الصحافة :
في الثلثين الأولين من القرن الثامن عشر سجلت الصحافة تقدما هاما من حيث تعدد الصحف وتنوعها، وارتفع رقم سحبها بشكل كبير
. في فرنسا انتقل سحب الصحف الباريسية من 36000 نسخة إلى مليون نسخة.وكان هذا التطور يسير بموازاة مع التطور العام للعالم الغربي، مع بعض التفاوتات المتعلقة بمستوى كل بلد.
وحاولت الحكومات في كل البلدان الحد من تقدم الصحافة بالنظر للدور الذي تلعبه في مراقبة ممارسة السلطة
. لكن ترسانة القوانين والإجراءات المحددة للحرية لم تعمر طويلا لأن التطور السياسي العام كان يدفع بفئات اجتماعية واسعة للاهتمام بالشأن العام (توسع الكتلة الناخبة؛ ترسخ العمل البرلماني؛…). وأدى تعميم التعليم خلال تلك الحقبة إلى نمو عدد القراء المحتملين للصحف، كما أن ارتفاع نسبة التمدن ساهم بدوره في الاهتمام بالصحافة.
وٍنتج عن تصنيع وسائل إنتاج الصحف وتوسع سوقها تغيير في شروط استغلالها
. فبعد أن كانت نادرة ومقتصرة على النخب الغنية والمثقفة في بداية القرن التاسع عشر، أصبحت الصحف أكثر رواجا وامتد استهلاكها إلى فئات اجتماعية جديدة بورجوازية صغيرة ثم إلى شعب المدن.
وكان السبب الرئيسي وراء هذا يعود إلى انخفاض ثمن بيع الجرائد، وقد تم على مراحل أدت كلها إلى توسيع سوق الصحف وإلى تغيير عميق في صيغة الجرائد التي أصبح يتعين عليها الانسجام مع الجمهور الجديد ومع شروط المنافسة
.
أما الشروط التقنية لإنتاج الصحف فلقد تطورت بشكل غير مسبوق، سواء على مستوى الورق المعتمد والذي أصبح متوفرا بشكل أكبر؛ أو على مستوى التصفيف باللجوء إلى تقنية النسخ
(la stéréotypie) التي مكنت من ترشيد اللجوء إلى اليد العاملة؛ أو فيما يتعلق بتقنيات الطباعة في حد ذاتها التي عرفت تقدما كبيرا مع مرور الوقت، وخصوصا عند ظهور الطابعات الميكانيكية في سنة 1811. في 29 نوفمبر من العام 1814 تم سحب جريدة جون والتر الثاني، مالك جريدة "التايمز"، في مطابع "Koenig & Bauer" التي كانت تعمل بالبخار بمعدل 1100 نسخة في الساعة وهو رقم قياسي آنذاك. وفي سنة 1846 اخترع روبيرت هو، في الولايات المتحدة الأمريكية، أول آلة للطباعة الأسطوانية، التي ستؤدي مع العديد من التحسينات التدريجية، إلى المطبعة الدوارة المعاصرة "Rotative"، التي تستعمل الورق المدرج ( papier en bobine). وصار عدد النسخ المطبوع في الساعة يتراوح ما بين 12000 و18000 نسخة.
واستفادت الصحافة، أيضا، من التطور الهائل لوسائل النقل في القرن الثامن عشر
. وقد أسدت السكك الحديدية خدمة كبيرة للصحافة لتمكنيها من توسيع دائرة التوزيع مع تسريع وتيرته. وكذلك الأمر بالنسبة لتقدم الخدمات البريدية (التلغراف الكهربائي؛…).
وقد تطور سوق الأخبار مع ازدهار الصحافة بشكل هائل مما أدى إلى ظهور وكالات متخصصة في جمع وتداول الخبر، ساعدها في ذلك ظهور تقنية التلغراف الكهربائي في أواسط القرن التاسع عشر
. وكانت وكالة هافاس "Havas"(سنة 1835) هي السباقة للظهور ومؤسسها اوغست هافاس. وسرعان ما مدت سيطرتها على سوق الصحافة الفرنسية من خلال شبكة مراسليها بفرنسا والخارج ومن خلال احتكار خدمات التلغراف الكهربائي.
وتأسست وكالة وولف
"Wolff" ببرلين سنة1849 لصاحبها برنارد وولف، وكان من العاملين السابقين بوكالة هافاس.
وأسست وكالة رويتر
"" في لندن سنة 1851 من طرف جوليوس رويتر الألماني الأصل، وكان بدوره من قدماء وكالة هافاس.
وفي سنة
1848 توحدت ست صحف أمريكية وأسست وكالة اشوسيتد بريس "" وذلك للاقتصاد في ميزانية جمع الأخبار التي كانت ترهق كاهل كل جريدة على حدا.وقد استوعبت هذه الوكالات بصفة مبكرة خطورة دخولها في معركة تنافسية وفضلت أن ترتبط فيما بينها باتفاقيات لتبادل الأخبار كخطوة أولى نحو نوع من "تقسيم للعالم" يضمن لكل وكالة حيزا جغرافيا خاصا. وتم توقيع أول اتفاق ما بين هافاس ورويتر وولف سنة 1859، والتحقت بهم وكالة أشوسيتد بريس سنة 1872.
وقد نتج عن كل هذه العوامل ارتفاع كبير في نسبة مبيعات الجرائد بفرنسا، حيث تزايدت بما يعادل ثلاثون مرة في الفترة ما بين سنتي
1800 و1870. وقد أدى هذا التطور الهائل إلى دعم موقف الصحافة اتجاه الهيئات الحاكمة التي استمرت في محاولاتها لتقزيم دورها.
وعرف يوم الفاتح من فبراير لسنة
1863 ميلاد منتوج سيشكل علامة بارزة في تاريخ الصحافة الأوربية، وسيسمى ب"الصحافة الشعبية". فلقد أصدر مويس ميلو "Moïse Millaud" جريدة "Le Petit Journal" بثمن جد بخس (5 سنتيمات) آنذاك. وكانت من الحجم المتوسط (43×30 سم) وعدد صفحاتها أربعة. وستمس هذه الجريدة أوسع الفئات الشعبية لأول مرة في تاريخ الصحافة فاتحة آفاق هائلة أمام تطورها. ووصلت مبيعات الجريدة إلى 300000 نسخة سنة 1870، واعتمدت هيئة التحرير خطا تحريريا بعيد عن التقلبات السياسية لتلك الفترة، يغطي الأحداث البسيطة التي تشغل اهتمام الناس "faits divers"، مع نشر سلسلات من المغامرات البوليسية المشوقة وغيرها من التوابل التي تجلب عامة القراء.
وعرفت السنوات من
1815 إلى 1871 تطور الصحافة الجهوية بنوع من البطء لغياب الزبناء المحتملين ولضعف المستوى، إضافة إلى الرقابة الشديدة للسلطات الإقليمية. وستعرف هذه الصحافة نموا مهما مع تطور المجتمع الفرنسي سينتقل بها من 4 صحف سنة 1812 تسحب في مجموعها 3000 نسخة إلى 190 جريدة سنة 1880 تروج أكثر من مليون نسخة.
في إنجلترا ظلت المراقبة المفروضة على الجرائد مراقبة لصيقة حتى مع وجود قوانين مرنة
. وتعرض الصحافيون لمتابعات متنوعة تعامل معها القضاء بصرامة شديدة. واستعملت السلطات سلاح الرسوم والضرائب للحيلولة دون ظهور صحافة شعبية تمس غالبية الناس، مما حول الصحف الإنجليزية إلى أغلى الصحف في المنطقة وبالتالي أثر على نمو حجم مبيعاتها. وفي سنة 1833 تم التخفيض من الضرائب التي تكبل عمل الصحافة تحت تأثير الرأي العام لتلغى نهائيا ما بين سنتي 1853 و1861.
وظهرت جريدة
"التايمس" (The Times) سنة 1785 تحت عنوان "دايلي يونيفرسال روجيستر" (Daily Universal Register) لصاحبها جون والتر، وتحولت إلى اسمها النهائي (والحالي) في 1 يناير 1788. وقد أخذت هذه الجريدة اليومية انطلاقتها الفعلية سنة 1803 تحت إشراف جون والتر الثاني. ومع مرور الوقت اكتسبت هذه الجريدة المستقلة صدى وإشعاعا واسعين. وانتقلت مبيعاتها من 10000 سنة 1820 إلى 40000 سنة 1850 لتظل في الارتفاع بعد ذلك (650000 نسخة يومية سنة 2006).
وأدى إلغاء الضرائب على المعرفة
"taxes sur le savoir" إلى تناسل الصحف وتعاظم كتلة القراء بسبب انخفاض ثمن الجرائد (1 بيني "penny") ومماثلتها في ذلك لنظيرتها الفرنسية؛ وأدى هذا إلى تضرر الصحف القديمة التي انهار بعضها، بينما ازدهرت أخرى ك"الدايلي تلغراف"(Daily Telegraph) التي صدرت سنة 1855 وصارت تبيع 27000 نسخة سنة 1856 لتصل إلى 191000 نسخة سنة 1871 (وبلغت مبيعات الجريدة سنة 2005 : 904 955 نسخة). وهكذا انتقلت الصحافة الإنجليزية إلى مرحلة جديدة من نموها.
كان مجموع سكان الولايات المتحدة سنة
1790 لا يتجاوز 4 مليون نسمة، وكانت مبيعات الصحف بالتالي منخفضة؛ لكن الصحف الأمريكية اكتسبت منذ تلك الفترة أسلوبا مباشرا وعنيفا وكثير اللجوء للسجال والجدل. في سنة 1800 كانت هناك 17 جريدة يومية و200 نشرة دورية في 13 ولايات. وكانت نيويورك بصدد التحول إلى أهم مركز للصحافة، هناك حيث ظهرت أول كبريات الصحف التي كانت تباع بأثمان منخفضة، والتي أسست للصحافة المعاصرة المبنية على الريبورتاجات والأصداء السرية والحوادث (faits divers). وفي سنة 1851 أسس كل من (Henry Jarvis Raymond وnes George Jo) جريدة " نيويورك تايمز" (New York Times) التي عملت على تبني خط إعلامي رصين بعيد عن أجواء السجال والإثارة مع اعتماد أسلوب جيد في الكتابة الصحفية وتبويب مضبوط. في سنة 1850 وصلت مبيعات الصحف الأمريكية ال240 حوالي 750000 نسخة. وقد ساعدت الحرب الأهلية، بما صحابها من أحداث هامة ومثيرة، على انتشار الصحف ونمو حجم مبيعاتها.
وفي ألمانيا كان يتعين انتظار إلغاء القوانين الرقابية، سنة
1848، لكي تحصل النهضة الصحافية بظهور العديد من الصحف. لكن هذه الصحوة سرعان ما انتهت مع التطورات السياسية التي أدت إلى انتصار الملكيات التقليدية. وعلى الرغم من هذا الانحسار صار للصحافة الألمانية قرائها كما حافظت على حقها في الخوض في شؤون السياسة بلهجة أكثر حرية.
في سنة
1856 تأسست جريدة "فرانكفورتر زايتونغ" (Frankfurter Zeitung) التي ستصدر إلى غاية سنة 1943، وستكتسب شهرة كبيرة وعدد هام من القراء. وفي سنة 1870 كانت الصحافة الألمانية جد متنوعة وتعرف صدور جرائد ذات جودة كبيرة، لكنها كانت مبعثرة من الناحية الجغرافية.
ومع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أصبحت الصحافة من ضمن المنتوجات الاستهلاكية العادية مع تسارع وتيرة تطور المجتمعات الغربية
. وقد شكلت هذه الفترة عصرا ذهبيا حقيقيا للصحافة، المكتوبة على الخصوص والتي كانت بدون منافس إعلامي آخر، مما أدخلنا إلى المشهد الإعلامي الحديث والمعاصر للقرن العشرين والقرن الحالي.