دخل الرجل على عجلة من أمره إلى مقر المحكمة الشرعية وجعل يشكو من زوجه والزوجة مثله تشكوه !
فقلت في نفسي كيف كان هذان الزوجان يعيشان مع بعضهما طوال تلك السنين دون شكوى والآن تفجرت قريحة كل واحد منهما ضد صاحبه !
ثم أجبت نفسي وأنا أنظر إليهما دون أن أفهم شيئا مما قالاه وهما يتصايحان، فقلت : لقد سكنا في بيت واحد إلا أنهما لم يسكنا إلى بعضهما بعضاّ ؟
فما هو السكن المقصود ؟
وهل الوفاق خير أم الشقاق ؟
قال تعالى : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } [ الروم 21 ] .
نعم ليسكن إليها و لم يقل ليسكن معها ، مما يؤكد معنى الاستقرار في السلوك ، و الهدوء في الشعور ، و يحقق الراحة و الطمأنينة بأسمى معانيها . فكل من الزوجين يجد في صاحبه الهدوء عند القلق ، و البشاشة عند الضيق .
إن أساس العلاقة الزوجية الصحبة و الاقتران القائمان على الود و الأنس و التآلف . إن هذه العلاقة عميقة الجذور بعيدة الآماد . إنها أشبه ما تكون صلة للمرء بنفسه ، بينها كتاب ربنا بقوله: { هن لباس لكم و أنتم لباس لهن } [ البقرة 187 ] .
فضلاً عما تهيؤه هذه العلاقة من تربية البنين و البنات و كفالة النشء .. التي لا تكون إلا في ظل أمومة حانية ، و أبوة كادحة .. و أي بيئة أزكى من هذا الجو الأسري الكريم .
هناك أمور كثيرة يقوم عليها بناء الأسرة المسلمة ، و تتوطد فيها العلاقة الزوجية ، و تبتعد فيها عن رياح التفكك و أعاصير الانفصام و التصرم . و أول هذه الأمور و أهمها : التمسك بعروة الإيمان الوثقى .. الإيمان بالله و اليوم الآخر ، و الخوف من الله تعالى ، و لزوم التقوى و المراقبة ، و البعد عن الظلم و التعسف في طلب الحق .
{ ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [ الطلاق 2- 3 ] .
و يقوي هذا الإيمان .. الإجتهاد في الطاعة و العبادة و الحرص عليها ، و التواصي بها بين الزوجين . تأملوا قوله صلى الله عليه و سلم : ( رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى و أيقظ امرأته فصلت ، فإن أبت نضح في وجهها ـ يعني رش عليها الماء رشاً رفيقاً ـ و رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت و أيقظت زوجها فصلى ، فإن أبى نضحت في وجهه الماء ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وهو حديث صحيح ( صحيح الجامع 3494 ).
إن العلاقة بين الزوجين علاقة روحية وإن مما يحفظ هذه العلاقة و يحافظ عليها . . المعاشرة بالمعروف ، و لا يتحقق ذلك إلا بمعرفة كل طرف ما له و ما عليه . و إن نشدان الكمال في البيت و أهل البيت أمر متعذر ، و الأمل في استكمال كل الصفات فيهم أو في غيرهم شيء بعيد المنال في الطبع البشري .
و من رجاحة العقل و نضج التفكير توطين النفس على قبول بعض المضايقات ، و الغض عن بعض المنغصات ، و الرجل و هو رب الأسرة مطالب بتبصير نفسه أكثر من المرأة ، و قد علم أنها ضعيفة في خلقها و خلقها ، إذا حوسبت على كل شيء عجزت عن كل شيء ، و المبالغة في تقويمها يقود إلى كسرها ، و كسرها طلاقها . يقول المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه و سلم : ( استوصوا بالنساء خيراً فإنَّ المرأة خلقت من ضلع و إن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته ، و إن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيراً ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن ماجه وهو حديث صحيح ( صحيح الجامع 960 ).
فالاعوجاج في المرأة من أصل الخلقة ، فلا بد من مسايرته و الصبر عليه ، فعلى الرجل ألا يسترسل مع ما قد يظهر من مشاعر الضيق من أهله و ليصرف النظر عن بعض جوانب النقص فيهم ، و عليه أن يتذكر و لا يتنكر لجوانب الخير فيهم ، و إنه لواجد في ذلك شيئاً كثيراً .
وفي مثل هذا يقول الرسول صلى الله عليه و سلم : ( لا يفركن مؤمن مؤمنة ـ أي لا يبغض و لا يكره ـ إن كره منها خلقاً رضي منها غيره) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الإمام أحمد والإمام مسلم وهو حديث صحيح ( صحيح الجامع 7741 ) و ليتأن في ذلك كثيراً ، فلئن رأى منها بعض ما يكره فهو لا يدري أين أسباب الخير و موارد الصلاح .
يقول عز من قائل{ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا } [ النساء: 19 ] .
و كيف تكون الراحة ؟ و أين السكن و المودة ؟ إذا كان رب البيت ثقيل الطبع ، سيء العشرة ، ضيق الأفق ، يغلبه حمق ، و يعميه تعجل ، بطيء في الرضا ، سريع في الغضب ، إذا دخل فكثير المن ، و إذا خرج فسيء الظن ، و قد علم أن حسن العشرة و أسباب السعادة لا تكون إلا في اللين و البعد عن الظنون و الأوهام التي لا أساس لها . إن الغيرة قد تذهب ببعض الناس إلى سوء ظن .. يحمله على تأويل الكلام ، و الشك في التصرفات ، مما ينغص العيش ، و يقلق البال من غير مستند صحيح .
{ و لا تضاروهن لتضيقوا عليهن } [ الطلاق : 6 ] كيف و قد قال صلى الله عليه و سلم ( خيركم خيركم لأهله ، و أنا خيركم لأهلي ) أخرجه الترمذي عن السيدة عائشة رضي الله عنها وهو حديث صحيح ( صحيح الجامع 3314 ) .
أما المرأة المسلمة فلتعلم أن السعادة و المودة و الرحمة لا تتم إلا حين تكون ذات عفة و دين ، تعرف ما لها فلا تتجاوزه و لا تتعداه . تستجيب لزوجها فهو الذي له القوامة عليها يصونها و يحفظها و ينفق عليها ، فتجب طاعته و حفظه في نفسها و ماله ، تتقن عملها و تقوم به ، و تعتني بنفسها و بيتها . فهي زوجة صالحة ، و أم شفيقة ، راعية في بيت زوجها ، و مسئولة عن رعيتها ، تعترف بجميل زوجها و لا تتنكر للفضل و العشرة الحسنة ، فلا بد من العفو عن الزلات ، و غض البصر عن الهفوات ... لا تسيء إليه إذا حضر ، و لا تخونه إذا غاب . بهذا يحصل التراضي ، و تدوم العشرة و تسود الألفة و المودة و الرحمة .
وليعلم الزوجان أنه بحصول الوئام تتوفر السعادة ، و يتهيأ الجو الصالح للتربية ، و تنشأ الناشئة في بيت كريم مليء بالمودة عامر بالتفاهم .. بين حنان الأمومة و حدب الأبوة .. بعيد عن صخب المنازعات و الاختلاف و تطاول كل واحد على الآخر . فلا شقاق و لا نزاع ، و لا إساءة إلى قريب أو بعيد .
{ والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما } [ الفرقان 74 ]
ثم فليعلم أن صلاح الأسرة طريق أمان الجماعة كلها ، و هيهات أن يصلح مجتمع قد تقطعت فيه حبال الأسرة . كيف و قد امتن الله سبحانه بهذه النعمة . نعمة اجتماع الأسرة و تآلفها و ترابطها فقال سبحانه : { والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون } [ النحل 72 ] .
إن الزوجين و ما بينهما من وطيد العلاقة ، و إن الوالدين و ما يترعرع في أحضانهما من بنين و بنات يمثلان حاضر الأمة و مستقبلها ، و من ثم فإن الشيطان حين يفلح في فك روابط أسرة فهو لا يهدم بيتاً واحداً و لا يحدث شراً محدوداً ، و إنما يوقع الأمة جمعاء في أذى مستعر و شر مستطير ، و الواقع المعاصر خير شاهد .
فاتقوا الله أيها الأزواج فإنه من يتق الله يجعل له من أمره يسراً .
والحمد لله رب العالمين .
انتهــــ بفضل الله
أخوكم الأمير الفقير ...
الى اللقاء مع موضوع قادم ان شاء الله
و السلام عليكم و رحمة الله
•••
••
•