بدأت الحلقة بالتوقف عند الحوادث الأليمة التي وقعت في شرم الشيخ وعلّق الدكتور هداية على الأمر بالقول أن القضية هي قضية فكر فاسد عند بعض الناس وقد أخطأنا في علاج هذا الأمر واستخدامنا لكلمة الارهاب استخداماً خاطئاً للأسف وما حصل ويحصل كل يوم ليس بالارهاب وإنما هو إجرام فالارهاب قد يكون مطلوباً لمنع الاجرام وللأسف نحن لا نستطيع أن نوصّف الكلمات في القرآن الكريم توصيفاً صحيحاً ولهذا نشيء فهم الكلمات ونسيئ استخدامها. وعندما قال تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) الانفال) ترهبون أن يجعلوهم لا يقاتلوكم لقوتكم أنتم ولا تعني أن تقتلوهم كما يفهم معظم الناس فالناس تهاب القوي ولا تقاتله ولا تحاربه. والمطلوب منا اشاعة الثقافة الاسلامية الصحيحة بين المسلمين.
سؤال: تحدثنا في الحلقات السابقة عن قصة الصراع الأبدي بين الشيطان وبني آدم وكيف ان الشيطان يحاول أن يجعل الانسان عاصياً فيموت على معصيته وهذا أكبر جائزة للشيطان وأعظم خسارة للذي مات على المعصية. وذكرنا في الحلقة السابقة الجهات الأربع التي يدخل منها الشيطان على الانسان وكيف حفظ الله تعالى جهتين وحرسهما من الشيطان وهدفنا أن نتعلم كيف نغلق الجهات الأربع في وجه الشيطان. ونعود لنتكلم على الغواية ومعناها لأن الكثيرين يعتقدون أن الآية تدل على ان الشيطان اتهم الله تعالى حاشاه بأنه الذي أغواه (فبما أغويتني) وبعض الناس يستعملون هذا الأسلوب عندما ينصحهم الناس.
الآيات في سورة الأعراف تحتاج لوقفات ونحن في اسلوبنا في هذه الحلقات نتكلم عن معنى محدد ثم نتركه ليستقر عند الناس ونحن لا نستعرض فهمنا للقرآن أو الحديث ولكن نوضح للناس أن عليهم أن يضعوا أيديهم على منهج واضح. وقول الشيطان (بما أغويتني) و (فبما أغويتني) يفهمها البعض ويظنون أنها تعني أن الله تعالى فرض على ابليس هذه الخِلقة فليس على الشيطان ذنب كما يقول البعض عندما تدعوهم الى الصلاة فيقولون لم يهدني الله تعالى بهد فكأن فكر الشيطان قد تغلغل في نفوسهم. خِلقة ابليس هي على مراد الله تعالى والشيطان عندما قال (بما أغويتني) لم يرد الله تعالى عليه بقوله لا لم أغويك فيظن البعض ان الشيطان معذور وهذا كلام خاطئ وفكر خاطئ. القضية أن القرآن أعمق من أن يوضع فيه كل الحدود وإلا فما فائدة الايمان؟ وهنا أسأل سؤالاً : هل حينما أمر الله تعالى أن تكون خِلقة ابليس على ذاك النحو فرضها الله تعالى عليه أو جعله مختاراً؟ ساعة أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم سجدوا جميعاً الا ابليس لم يسجد ولو كان مجبراً لسجد لكنه اختار عدم السجود. ولما قال تعالى (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) فهل العبودية اختيار ام اجبار؟ إنه اختيار فإما أن تقبل وإما أن لا تقبل. المنافق يظهر قضية الاختيار فهو يبطن شيئاً ويظهر شيئاً آخر مغايراً يقول تعالى في المنافقين (هم العدو فاحذرهم) المسلم بتفكيره يعتقد ان الكافر هو العدو ولكن الكافر عدو ظاهر أما المنافق فهو العدو الأخطر لأنه قد يكون يصلي معك وهو منافق ويكيد لك. الشيطان كان مختاراً فاختار الكفر ومن الناس الآن من يتشدقون بمعنى قول الشيطان (فبما أغويتني) ويستعملون هذا المنطق ليبرئوا أنفسهم. يقول بعض المفسرين ان الاغواء تعني الاضلال وهذا معنى مقبول لكنه ليس كاملاً وأكون قد أخرجت الكلمة من لازم معناها. الاغواء هو التزيين وهو الاغراء بالمعصية (لأزينن لهم) وقول الشيطان (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) دليل على أن الناس مهديين للحق بالفطرة السليمة.
البشر نوعان نوع يدرك أنه مخلوق لله تعالى ونوع يقول أنه سيعمل منهجاً آخر على هواه ولا يلتزم التزاماً تاماً بكل ما جاء في القرآن الكريم. في سورة الجاثية (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) الجاثية) هذه الآية اختلف فيها أهل اللغة وأهل التفسير في تفسير معنى قوله تعالى (على علم) وقلنا سابقاً أن معنى قوله تعالى أفرأيت تعني أخبرني اخبار من علِم عِلأم خبرة ودراية وإحاطة , وقلنا أن القرآن الكريم أعمق من أن يكون للكلمة معنى واحداً. فقوله تعالى (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) الفرقان) تحتمل أن يكون المعنى إما أن يتصدى الرسول صلى الله عليه وسلم له أو أنه يستطيع أن يهديه لكن هل يستطيع أحد أن يهدي من أضلّه الله تعالى؟ لا يمكن ذلك والضلالة لا تكون من الله تعالى لكن من الانسان الذي يبدأ بها بدليل قوله تعالى (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً) وقوله تعالى (أفرأيت من اتخذ الهه هواه) هو الذي اختار وترك الله تعالى بما له من منهج وعمل منهجاً لوحده. ولنذكر قوله تعالى (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا) دليل أن لهؤلاء أعمال وأنهم صاموا وصلوا وحجوا لكنهم صلوا ولم يصلوا وصاموا وما صاموا والرسول صلى الله عليه وسلم ما ترك أمراً إلا وترك لنا فيه توجيهاً "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه" فالناس تمسك عن الطعام والشراب ولا يمكسون عن المفروض من حكمة الصيام. لا يمكن ان يفسر الناس الآية على أن الله تعالى أضل الناس وإنما تفسيرها أن الناس هم الذين اتخذوا نهجاً غير منهج الله تعالى (من أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن) فالحجة مقطوعة على صاحبها هنا. قوله تعالى (أفأنت تكون عليه وكيلا) تعني هل يمكن أن تهديه يا محمد؟ بالطبع لا وهنا نعود للحجديث عن قضية الهداية للرسول صلى الله عليه وسلم ففي آية يقول تعالى (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) أي نفى الهداية وفي آية أخرى قال تعالى (وإنك لتهتدي الى صراط مستقيم) أكد الهداية للرسول صلى الله عليه وسلم وكما سبق وشرحنا أن هذه الهداية المثبتة للرسول صلى الله عليه وسلم هي هداية الدلالة فإما أن نتّبع الطريق وإما لا فهذا اختيار الناس وأكرر ما أقوله دائماً علينا أن نقول "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله" وهذا كلام أهل الجنة بعد دخولهم الجنة.
لو كانت الآية تنص على أن الهوى هو الذي أضلّه فعين الشرك أن تتخذ الهك هواك وقلنا أن (أفرأيت) تعني أخبرني اخبار من أحاط بالقضية عن دراية وخبرة وهذا لا يكون إلا لله تعالى ولا يمكن لانسان أن يخبر هذا الاخبار. الناس تصلي والله تعالى فقط يُخبر بحال المصلي الملك يكتب أنه يصلي لكن الله تعالى يعلم فقط حقيقة هذه الصلاة وهو وحده سبحانه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
(وأضله الله على علم) الذي أخطأ بعيداً عن الفطرة هو الذي أشرك بالله شركاً ظاهراً لكنه لا يشعر به وطالما بدأ الموضوع بخطأ من الانسان يكمل تعالى (وأضله الله على علم) وهذا عقاب له على تركه منهج الله تعالى. (على علم) هل هو علم الله أم علم الإنسان؟ إن القرآن أكبر من أن يكون للكلمة معنى واحداً لو كانت الآية وأضله الله على علمه سنسأل على من يعود الضمير في عليه؟ ولهذا علينا أن نفكر جيداً عندما نقرأ القرآن. من المفسرين من قال رغم علمه بالهداية والضلال (فألهمها فجورها وتقواها) وسبق أن أوضحنا أن ألهمها تعني بيّن لها الفجور لتتجنبه والتقوى لتتبعه والانسان يعلم الحلال والحرام (بل الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره) لقاء المولى تعالى فيه عدالة غير متصورة بدليل قوله تعالى (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها) وهذا المعنى جميل: أضله لأنه اختار الهوى أما المعنى الأعمق لقوله تعالى (على علم) فهو على علم الله تعالى المطلق لأن علم الله يشمل علم الانسان وعلم الانسان هو عبارة عن مجموعة اجتهادات ومحاولات وشروحات من هنا وهناك ولا يأتي الا بالتحصيل لكن علم الله تعالى سبحانه علم ما كان وما يكون وما سوف يكون وما لا يكون لو كان كيف كان يكون.
كل شيء في علم الله تعالى قال تعالى (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضل عليها) لماذا استخدم اللام في الهدى للنفس وعلى في الضلال؟
لأنه تعالى يتكلم عن موقف في الآخرة من اهتدى في الدنيا يكون نتيجة الهدى له في الآخرة ومن ضل في الدنيا تكون نتيجة الضلال عليه في الآخرة فالخسارة تكون عليه والكسب يكون له. والانسان من غبائه يضل فتكون النتيجة عليه يوم القيامة.
قال تعالى في سورة البقرة (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) المعنى يعطي أن الذي كسبته غير الذي اكتسبته فالذي كسبته عملت عمل خير تجمع نتيجته في الدنيا ويكون لك في الآخرة أما الذي اكتسبته فسيكون عليك يوم القيامة. وفي كل الحالات نوقّع قوله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) لا يربط عمل بعمل لأن هذا من تزيين الشيطان كأن نقول لامرأة غير محجبة أنها لا يمكن ان تصلي أو تصوم وهي غير محجبة وأنا ألوم كل من يمنع النساء غير المحجبات من حضور مجالس العلم والدروس الدينية وهذا من باب التعنّت. ولنذكر أن الشيطان قال (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) لم يقل على أول الصراط أو آخره أو في وسطه أو الطريق المؤدية إليه لكنه شمله كله وسيُحضر الناس من أي مكان فيه تقوى فلا تعينوا العاصي على معصيته ولا الكافر على كفره.
(وأضله الله على علم) تكررت في مواضع في القرآن وتكلم تعالى عن أقوام سابقين (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) آل عمران) (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) الشورى) (وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) الجاثية) فما العلم الذي جاءهم وما معنى قوله تعالى (بغياً)؟
بغياً هي مفعول لأجله واقعه حال. أي أنهم عملوا هذا يبتغون البغي وتوصيف البغي الاثم والتأثيم. وبغياً أي جزاء البغي فالذي سيحصل لهم جزاء بغيهم وما فعلوه ما فعلوه إلا بعد أن جاءهم العلم. اليهود كانوا ينتظرون نبي آخر الزمان وعندما عرفوه غيّروا وحرّفوا أوصافه وهذا هو البغي.
لماذا فضّل الله تعالى اليهود على العالمين؟
قال تعالى (وإني فضلتكم على العالمين) التفضيل بأنهم الأمة الوحيدة التي ذُكر عندهم أوصاف الرسول حتى إذا جاءهم يؤمنوا به. هذا تفضيلهم لكنهم لم يعملوا بهذا التفضيل وقلبوه على أنفسهم وجاءهم العلم الذي عندهم رصيده. أكثر أنبياء الأرض من اليهود وأرسلوا اليهم ومرة واحدة جاء الرسول من غيرهم فهؤلاء اليهود أرادوا أن يحولوا المنهج على هواهم. كثرة الأنبياء تدل على كثرة الأمراض والعلل وقلة الأنبياء في أمتنا الاسلامية شرف لنا لأننا أقل الأمم عللاً لكن ليتنا نعمل هذا. وللأسف أن منا من يفعل مثل اليهود فيقرأ القرآن ثم يمشي على مراده ونعمل منهجاً على هوانا.