إنَّ الحمد لله نحمده ونستعِينُه، ونستَغفِره ونستَهدِيه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفُسِنا، ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلواتُ ربي وسلامُه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الوصيَّة الأولى: عدم الإسراف في المال:
المال نعمةٌ كما هو نقمة؛ ولذلك دلَّنا الله - تعالى - على كيفيَّة التصرُّف فيه، وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الإسراف وما في معناه من التبذير والترَف من الأمراض الاجتماعيَّة التي تُهدِّد الحياة الزوجيَّة؛ لأنَّ الترف والبذخ بداية النهاية.
واعلَمْ أنَّ السرف والتبذير قد يفترق معناهما؛ فالسرف: هو الجهل بمقادير الحقوق، والتبذير: هو الجهل بمواقع الحقوق.
وكلاهما مذمومٌ، وذمُّ التبذير أعظم؛ لأنَّ المسرف يخطئ في الزيادة، والمبذِّر يخطئ في الجهل،
قلت: وسَواء كان سرفًا أو تبذيرًا، فكلاهما ممقوتٌ شرعًا.
• ومن صُوَرِ الإسراف من الزوج السرف في شرب وتَعاطِي الدخان وما يجري مجراه، وكان أولى بهذا المال أنْ يُكرِم به زوجته وأولاده!
ألم يقل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((دِينارٌ أنفَقتَه في سبيل الله، ودِينارٌ أنفَقتَه في رقبةٍ، ودِينارٌ تصدَّقت به على مسكين، ودِينارٌ أنفَقتَه على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفَقتَه على أهلك))؛ رواه مسلم.
ثم إنَّ التدخين من المحرَّمات والخبائث؛ قال - تعالى -: ﴿ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 100].
وهو أولاً:
تبذيرٌ للمال من غير طائل، وثانيًا: ضرره على الصحَّة والبدن مدمِّر على المدى القصير والطويل، فهو يُشبِه الانتحار البطيء.
نعم؛ فهو - أي: التدخين - يتسبَّب في تسوُّس الأسنان، واصفرارها، واسودادها، ويتسبَّب في التهاب اللثَةِ، وتقرُّحات الفمِ واللسانِ، والربو، وضيق النَّفَس، والسُّعال، والبصاق، وضَعْف كَفاءةِ الرئة، وسُوء الهضم، وتليُّف الكَبِد، والسكتة الدماغيَّة، والذبحة الصدريَّة، وإصابة شرايينِ المخِّ بالتصلُّب، ويُسبِّب الغثيان، والإمساكَ المزمنَ، والصُّداعَ، والأرقَ، والفشلَ الكُلويَّ، وضَعْفَ السمعِ، وفُقدانَ حاسَّةِ الشم أو إضعافَها، وضعفَ الجهاز المناعي... إلخ.
وهذه الأمراض يحتاجُ الزوج للعلاج ممَّا قد يصيبه منها لكثيرٍ من المال،
ولا ريب أنَّ مثل هذا الإسراف والتبذير من الرجل أو المرأة التي ربما تُدخِّن هي أيضًا!
ضرره في الدِّين والدنيا لا يُجادِل فيه إلا جاحدٌ فاسد القلب والعقل، وهو مصيبةٌ مُتعدِّدة النواحي والمصايب، وحسبنا الله ونعم الوكيل!
وما يُقال عن الإسراف في التدخين يُقال مثلُه عن الإسراف في الطعام والشراب وشراء الملابس... وهَلُمَّ جَرًّا.
الوصية الثانية: الرضا والقناعة:
القناعة والرضا أفضل علاج للإسراف والتبذير الذي ذكرناه أنفًا، ولكنَّ الصبر عليهما من الزوجين يحتاجُ لمشقَّة وجهد، ومَن يلتزم منهما بذلك فهو دليلٌ على حبِّه ومُراقبته لله - تعالى - وابتغاء مرضاته، والتزامه بالمنهج الشرعي الذي يأمُره بالزهد والتقشُّف، ولا يُحرِّم عليه التمتُّع بالطيِّبات من الرزق، ما دام لا يخرج به عن حدِّ الاعتدال غير المرغوب فيه.
كما قال - تعالى -: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77].
قال ابن كثيرٍ في تفسيره: "أي: استعمل ما وهبَكَ الله من هذا المال الجزيل والنِّعمة الطائلة، في طاعة ربِّك والتقرُّب إليه بأنواع القُربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخِرة، ﴿ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾؛ أي: ممَّا أباح الله فيها من المآكِل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح؛ فإنَّ لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، ولزوجك عليك حقًّا، فآتِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه"؛
وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قد أفلَحَ مَن أسلَمَ، ورُزِق كفافًا، وقنَّعَه الله بما آتاه))
ولا ريب من واقع ما سمعتُ من الناس أنَّ أهمَّ الأسباب المؤدِّية للهموم والغموم التي تُصِيب كثيرًا من بيوت المسلمين هو عدمُ القناعة بما أعطاهم الله، والتفاخُر بينهم في الإنفاق بسَفهٍ؛ بغرَض التنافُس الممقوت والإسراف في المظاهر، واللجوء إلى الاستِدانة رغم قلَّة الإمكانيَّات الماليَّة عند البعض منهم؛ ممَّا يُؤدِّي إلى تَراكُم الديون التي تُثقِل كاهلهم، وتفسد أخلاقهم، وتدفَعهم إلى طريق الحرام دفعًا، أو على الأقلِّ التقصير في حقِّ الله - تعالى - ومعصيته، وكفى بهذا جهلاً وسفهًا.
ولو تأمَّلنا الواقع على مستوى الإنفاق المذموم لأفراد الأسرة متوسِّطة الدخل لتعجَّبْنا من كثْرة الاحتِفالات والولائم؛ سَواء في إقامة حَفلات الزواج لأبنائها في النوادي، أو احتفالاً بأعياد الميلاد، أو ما أشبه ذلك، وكلُّ ذلك يحتاجُ لِمَبالغ طائلة من أجل مَظاهر كاذبة ليستْ من الدِّين في شيءٍ.
الوصية الثالثة: مراقبة الله - تعالى:
يُخطِئ كلٌّ من الزوج وزوجه إنْ ظنَّ أحدهما قُدرته على خِداع الطرف الآخَر، لسببٍ من الأسباب التي تدفعه إلى ذلك؛ لأنَّه دومًا ما ينكشف الأمر ولو بعدَ حين، وهنا يترتَّب على آثار هذا الانكشافِ حاجزٌ نفسي يَصعُب هدمُه على المدى الطويل.
ومن ثَمَّ كانتْ هذه الوصيَّة بِمُراقبة الله لكلٍّ من الزوج وزوجِه أمرًا في غاية الأهميَّة، وإهمالها سيُؤدِّي قطعًا لمشاكل جمَّة.
وكثيرٌ منها - أي: المشاكل التي تنشَأ من انعِدام الثقة بالطرَف الآخَر - سببها عدم الخوف من الله ومُراقبته.
قال الله تعالى -: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19].
يُخبِر الله عزَّ وجلَّ -
عن علمه التامِّ المحيط بجميع الأشياء؛ جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، دقيقها ولطيفها؛ ليحذر الناس علمه فيهم فيستحيوا من الله - تعالى - حقَّ الحياء، ويتَّقوه حقَّ تَقواه، ويُراقِبوه مراقبةَ مَن يعلم أنَّه يَراه، فإنَّه - عزَّ وجلَّ - يعلَم العين الخائنة وإنْ أبدتْ أمانة، ويعلم ما تنطَوِي عليه خَبايا الصدور من الضمائر والسرائر"،
• ففيما أخرجه مسلمٌ من حديث جبريل - عليه السلام - عن عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - قال: يا محمد، فأخبرني عن الإحسان، قال: ((أنْ تعبُد الله كأنَّك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنَّه يَراك)).
• قال ابن القيِّم في مدارج بتصرف:
المراقبة دَوام عِلم العبد وتيقُّنه باطِّلاع الحقِّ - سبحانه وتعالى - على ظاهره وباطنه، فاستِدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة، وهي ثمرة عِلمه بأنَّ الله - سبحانه - رقيبٌ عليه، ناظرٌ إليه، سامعٌ لقوله، وهو مطَّلِعٌ على عمله كلَّ وقت وكلَّ لحظة، وكلَّ نفَس وكلَّ طرفة عين، والغافل عن هذا بمعزِلٍ عن حال أهل البِدايات، فكيف بحال المُرِيدين؟ فكيف بحال العارفين؟
وقيل: مَن راقَبَ الله في خواطره، عصَمَه في حركات جوارحه.
وقال ذو النون: علامة المراقبة إيثارُ ما أنزل الله، وتعظيم ما عظَّم الله، وتصغير ما صغَّر الله،
ومن ثَمَّ ينبغي على الزوج وزوجه عدمُ خِداع كلٍّ منهما الآخَر؛ لأنَّ انعِدام الثقة بينهما سيترتَّب عليه هدْم عشِّ الزوجية.
الوصيَّة الرابعة: عدم التمادي في الغيرة وإظهارها:
الغيرة المعتدلة لكلٍّ من الزوجين بعضهما على بعض بلا إفراط أو تفريط أمرٌ محمود في الإسلام؛ ودليل ذلك قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله يَغار، وإنَّ المؤمن يَغار، وغيرة الله أنْ يأتي المؤمن ما حرم عليه))؛ أخرجه البخاري
• وعن أنسٍ قال: "كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمَّهات المؤمنين بصحفةٍ فيها طعامٌ، فضربت التي النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في بيتها يدَ الخادم؛ فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلق الصحفة، ثم جعل
يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: ((غارت أمُّكم))، ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفةٍ من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرت صَحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت"؛ أخرجه البخاري في النكاح ح/5225.
قال الحافظ بن حجر في شرح الحديث ما خُلاصته:
قوله ((غارت أمكم)) الخطاب لِمَن حضر، والمراد بالأم هي التي كسرت الصحفة، وهي من أمَّهات المؤمنين... ثم قال: وعلى هذا حمَلَه جميع من شرح هذا الحديث، وقالوا: فيه إشارةٌ إلى عدم مُؤاخَذة الغَيْراء بما يصدُر منها؛ لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوبًا بشدَّة الغضب الذي أثارَتْه الغيرة،
والغيرة لها حدٌّ إذا جاوزَتْه صارت تهمة وظنًّا سيئًا بالبريء، وإن قصرت عنه كانت تغافُلاً ومبادئ دِياثة، وللتواضُع حدٌّ إذا جاوَزَه كان ذلاًّ ومَهانة، ومَن قصر عنه انحرَفَ إلى الكبر والفخر، وللعزِّ حدٌّ إذا جاوَزَه كان كبرًا وخلقًا مذمومًا، وإنْ قصر عنه انحرف إلى الذل والمهانة.
وضابط هذا كله العدل؛ وهو الأخذ بالوسط الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط، وعليه بناء مصالح الدنيا والآخٍرة،
ومن ثَمَّ يجب أنْ يدرك كلٌّ من الزوجين أنَّ الغيرة المعتدلة المحمودة مطلوبةٌ؛ لأنها دليل المحبة، ولو كان فيها نوع من التصرُّف المرفوض فهو مَعفِيٌّ عنه؛ لعدم القصد في الأذى، ولكن إنْ خرجت عن حدِّ الاعتدال إلى التشكيك والاتهام، وربما التجسُّس على الطرف الآخَر فهي غيرة مذمومة ومرفوضة؛ لأنها تُعكِّر صفوَ الحياة الزوجية حتمًا.
الوصية الخامسة: التكتُّم على الأسرار الزوجيَّة:
كثيرٌ من الرجال والنساء المتزوجين يُهمِلون مثل هذه الوصيَّة العظيمة، فالبيوت والأبواب إنما كانت لستر عورات الناس، واحتِفاظهم بخصوصياتهم التي لا يطَّلع عليها أحدٌ غيرهم.
فلو كانت حَياتهم بما فيها من خُصوصيَّات يمنعهم الحياء والخلق الحسن من كشْفها إلا في بيوتهم حيث يمارس كلٌّ من الزوج وزوجه حريَّته على طبيعته وفطرته دون تصنُّع، فمن البدهي أنَّ معرفة الأهل والأصدقاء بهذه الخصوصيَّات من الزوج أو الزوجة سيُؤدِّي إلى الصدام بينهما والحقد والكراهية وفقدان الثقة والغيرة المحمودة إلى النقيض تمامًا.
وبالتبعة يُؤدِّي ذلك إلى الفشل في العلاقات الزوجيَّة، فتنتهي بالطلاق أو الخلع، وهو النهاية المتوقَّعة للجهل بمثْل هذه الأمور.
ولعلَّ من أشدِّ الأسرار والخصوصيَّات التي ينبَغِي عدم إفشائها مهما كانت حدَّة الخلاف أسرارَ المعاشرة بينهما على الفراش؛ لأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حذَّر من ذلك فقال: ((إنَّ من شِرار الناس عند الله منزلةً يوم القيامة الرجلَ؛ يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشُر أحدهما سرَّ صاحبه))؛
وفي هذا الحديث تحريمُ إفشاء الرجل ما يجري بينه بين امرأته من أمور الاستمتاع، ووصف تفاصيل ذلك، وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه، فأمَّا مجرَّد ذكر الجماع، فإنْ لم تكن فيه فائدةٌ ولا إليه حاجةٌ فمكروهٌ؛ لأنَّه خِلاف المروءة.
وإنْ كان إليه حاجة أو ترتَّب عليه فائدة بأنْ يُنكِر عليه إعراضه عنها، أو تدَّعي عليه العجز عن الجماع، أو نحو ذلك فلا كراهةَ في ذكره؛ كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إني لَأفعَلُه أنا وهذه))،
ومن ثَمَّ ينبغي الحذر من إفشاء أسرار الفِراش بصفة خاصَّة، والأسرار
الزوجية بصفة عامَّة؛ لأنَّه يؤدِّي إلى القيل والقال، وتلويث السمعة وتدخُّل الناس بلا داعي، وهو أمرٌ يمقته الطبع السليم والشرع المطهَّر.
الوصية السادسة:
الحذر من فتور المحبة بين الزوجين:
لو سألت أيَّ زوجين بعد زواجٍ دام عشر سنوات مثلاً عن شُعور كلٍّ منهما نحو الطرَف الأخربعد هذه المدة الطويلة، وهل هو نفس الشعور خلال فترة الخطوبة وبداية الزواج؟!
وسببها الانشغالُ الدائم في العمل، وفي رعاية الأولاد، وعدم الانفِراد العاطفي بينهما خارج البيت، أو حتى داخله، وبث ما في القلب، وإهمال المناسبات السعيدة بينهما، وإهمال التزيُّن والتجمُّل، وغير ذلك.
وبدل الشعور بالحبِّ نجدُ الرحمة والشفقة هي التي تُغلِّف تصرُّفات كلٍّ من الزوج وزوجه.
ولكنَّ الرحمة والشفقة والإحساس بالأمان مع شريك الحياة قد لا يصمد أمامَ الفتن التي زادَتْ، والاختلاط بين الجنسيين بلا رادِعٍ من دِين أو حَياء الذي عمَّ أرجاء الحياة المعاصرة.
والذي من أعظم أسبابه تبرُّج المرأة وابتذالها، وهي من أخطر الفتن على الإطلاق والذي انتشر انتشارَ النار في الهشيم، وغير ذلك من الفتن.
كلُّ هذا جعل كلاًّ من الزوج أو زوجه بحاجةٍ إلى شعور عاطفي قوي يربطه بشَرِيكه حتى لا يَنهار أحدهما، ويغرق مع تيَّارٍ لم يتعوَّد على ردِّه وصدِّه.
ومن ثَمَّ ينبغي للزوجين إحياء رُوح الشباب، وعودة الترابُط العاطفي بينهما؛ لتستمرَّ الحياة الزوجيَّة ترتوي من ينبوع هذا الترابُط، وترتَقِي إلى أعلى درجات السموِّ الروحي والعاطفي بعيدًا عن رِياح التجديد والفتن التي فترت علاقتهما القلبيَّة بكثرة الهموم والغموم!
ولذلك أنصَحُ كلاًّ من الزوجين بأمرَيْن على الأقل:
الأمر الأول: أن يتزيَّن ويتجَمَّل كل منهما للآخَر:
إنَّ ممَّا يُسعِد قلب الزوج أنْ يَعُود فيجد زوجته في أبهى صورة وأطيب ريح مرحبةً به، وبكلماتٍ طيِّبة مُشجِّعة تنسيه همومَه ومشاكله في يومه هذا وهو بين يديها.
فكثيرٌ من المشاكل تنشَأ لإهمال الزوجة هذا الجانب الحيوي تحت عنوان راح الشباب وانقضى!
لا أيَّتها الزوجة المحبَّة، إنَّ الحياة الزوجيَّة واستمرارها تحتاجُ إلى تضحيات وإنكار ذات، ولك أنْ تتصوَّري زوجك المسكين الذي ما زال ينبض قلبُه ويتعطَّش للمسة حَنان منك لا يجد منك كلَّما عاد إلى بيته إلاَّ الإهمال والتجاهُل، ووجدك رثَّة الثياب، مشغولة دائمًا في أعمال المطبخ والغسيل وفض مشاجرات الأولاد.
وهو الذي تقَعُ عينه بقصدٍ أو بدُونه على زميلاته في العمل أو المتبرِّجات من النساء التي تسلب لبَّه فيبدأ المقارنة بينك وبينهن!
وكُونِي على يقينٍ أنَّ كفَّتهن أرجح وأخطر، وإنْ كان زوجك يخاف الله ويغضُّ بصره، ولا يخونك ويخاف من الحرام، فهذا أمرٌ يُحسَب له لا لك.
لكن ما يكبته في قلبه وتعطُّشه للغذاء العاطفي الذي يَروِيه ولا يجده منك، سيجعله حتمًا يخرج عن صَمته كردِّ فعلٍ لإهمالك إياه.
وربما يغضَب لأسباب تافهة، أو يتلفَّظ بالطلاق بمناسبةٍ وغير مناسبة.
أنت طالق إنْ خرجت، أنت طالق إن ذهبت لفلان، أنت عليَّ حرام... وهكذا.
ويبدأ من جهتك الشكُّ في تصرُّفاته، ويلعَب الشيطان لعبته في إيقاد نار الشك في هذا التغيير، ويُوَسوِس لك بوجود امرأةٍ أخري!
وتبدأ المشاجرات مَن هي؟ ومتى وأين عرفتها؟!
وما أغناك عن كلِّ ذلك بأنْ تهتمِّي بنفسك قليلاً؛ فإنَّ لزوجك عليك حقًّا، فليكن بيتك جنَّتك ومصدر سَعادتك، كُوني أمامَه في أجمل صورة وأطيب رِيح، وسوف ترَيْن العجب!
وعلىيه أيضًا ألا يُهمِل هذا الجانب؛ فالزوجة يسعدها أنْ تجد زوجَها في صورة ورائحة طيِّبة، وفي الخبر المشهور أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - "كان لا يُفارِقه المشط والمدرى والمرآة في سفر ولا حضر".
وهي سنَّة العرب، وهو - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أمرنا بسنن الفطرة التي فيها النظافة العامَّة كما في حديث أنس - رضي الله عنه - قال: "وقَّت لنا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قصِّ الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، ألا يترك أكثر من أربعين ليلة))
وعليه أنْ يُدرِك زوجته مثله تمامًا، - رضي الله عنهما - قدوةٌ؛ فقد رُوِي أنَّه قال: إنِّي لأتزيَّن لزوجتي كما تتزيَّن لي، وما أحبُّ أنْ أستَنظِف - تعالى - قال: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228].
فينبغي للعاقل أنْ يكون له وقتٌ معلوم يأمُر زوجته بالتصنُّع له فيه، ثم يغمض عن التفتيش ليطيب له عيشه، وينبغي لها أنْ تتفقَّد من نفسها هذا،
فلا تحصره إلا على أحسن حال، وبمثل هذا يَدُوم العيش.
فأمَّا إذا حصَلت البذلة بانتْ بها العيوب، فنبت النفس وطلبت الاستبدال، ثم يقع في الثانية مثل ما وقع في الأولى، وكذلك ينبغي أنْ يتصنَّع لها كتصنُّعها له؛ ليدوم الود بحسن الائتلاف، ومتى لم يجر الأمر على هذا في حق مَن له أنفة من شيءٍ تنبو عنه النفس، وقع في أحد أمرين: إمَّا الإعراض عنها، وإمَّا الاستبدال بها.
الأمر الثاني: فتح جسر بينهما للتفاهُم والتشاوُر:
الحاجز النفسي الذي أوجده إهمالُ كلٍّ منهما للآخَر بسبب كثْرة مشاكل الأولاد وتربيتهم ورعايتهم، والهموم والغموم التي تُحِيط بالأسرة، ومُرور الأعوام وفتور العاطفة... إلخ.
لا بُدَّ لهذا الحاجز من هَدمِه وبناء جسرٍ من التفاهُم والانسجام بينهما قوامُه رعاية كلٍّ منهما لحقوق الآخَر؛ حتى يكون التآلُف والتآزُر بينهما قائمًا على أساس المعروف، لا على أساس الهوى والنزوة.
نعم؛ ينبغي لكلٍّ من الزوجين التجاوُز عن أيِّ هفوةٍ أو زلَّةٍ من الطَّرَفِ الآخَر، ولا يطلب من شريكه أنْ يكون مثاليًّا خاليًا من العيوب؛ ولهذا أوصى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الرجل بتجاوُز بعض الهفوات من الزوجة لضعفها؛ فقال: ((لا يَفرَك مؤمنٌ مؤمنةً، إنْ كَرِهَ منها خلقًا رَضِيَ منها آخَر ))؛
وأوصى أيضًا بغضِّ النظر عن هَفوات الزوج وابتغاء مرضاته؛ فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((ألا أُخبِركم برجالكم من أهل الجنَّة؟ النبيُّ في الجنَّة، والصديق في الجنَّة، والشهيد في الجنَّة، والمولود في الجنَّة، والرجل يزُورُ أخاه في ناحية المصر لا يزورُه إلا لله - عزَّ وجلَّ - ونساؤكم من أهل الجنَّة: الودود الولود العؤود على زوجها؛ التي إذا غضبَ جاءتْ حتى تضع يدها في يد زوجها وتقول: لا أذوقُ غمضًا حتى تَرضَى)).
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
_أمة الله_