عدد المساهمات : 1297 السٌّمعَة : 4 تاريخ التسجيل : 04/03/2013
موضوع: 8- الناسخ والمنسوخ*** الجزء الثامن الخميس مارس 07, 2013 6:27 am
المنظومة التكاملية لعلوم القرآن الكريم
الجزء الثامن الناسخ والمنسوخ
أهمية العلم به: العلم بالنسخ ضروري لفهم القرآن الكريم، ومعرفة الناسخ والمنسوخ في القرآن أمر لا بد منه لحسن تفسيره ومعرفة أحكامه، وعدم الخطأ فيها، فقد يتبنى البعض حكماً استخرجه من آية، وهو لا يعلم أن هذا الحكم منسوخ. قال عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – على رجل يتحدث عن تفسير القرآن في المسجد، فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ فقال:لا. قال: أنت أبو من ؟ قال: لقد هلكت وأهلكت، لا تقص في مسجدنا.
1- لغة: الرفع والإزالة والتبديل. يقال: نسخت الشمس الظّل، أي أزالته. ويأتي بمعنى التبديل والتحويل، يشهد له قوله تعالى: { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } [النحل: 101].
2- اصطلاحاً:المنسوخ بدليل شرعي متأخر عنه، أي رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر. فالحكم المرفوع يسمى: المنسوخ، والدليل الرافع يسمى: الناسخ، ويسمى الرفع: النسخ. أي أن الله يرفع الحكم الشرعي، الذي تقرره آية من كتاب الله، ويزيله ويلغيه، وقد يكون هذا بعوض وبدل، وقد لا يكون له عوض وبدل، ويحل محله حكماً شرعياً آخر.والحكم المرفوع يسمى المنسوخ، والحكم البديل يسمى الناسخ. والذي يرفع الأحكام وينسخها هو الله، والمراد بقولهم ( رفع حكم شرعي ) الحكم المنسوخ، والمراد بقولهم ( بدليل شرعي ) الحكم الناسخ. فعملية النسخ على هذا تقضي منسوخاً وهو الحكم الذي كان مقرراً سابقاً، وتقتضي ناسخاً، وهو الدليل اللاحق.
والدليل على وقوع النسخ في القرآن موجود في القرآن نفسه، فمن الآيات التي تشير إلى وقوع النسخ في القرآن قوله تعالى: { ما ننسخ من آية أو ننسها، نأت بخير منها أو مثلها، ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } سورة البقرة: آية 106. وهذه الآية صريحة في النسخ، تقرر أن الله إذا نسخ آية ورفع حكمها، أو نسأها وأخرها، وأبقى حكمها، فإنه يأتي بحكم خير من الحكم المنسوخ، ويكون خيراً للعباد في التعبد، سواء كان أخف من المنسوخ، أو أثقل منه، أو مساوياً له، أو يأتي الله بحكم مثل الحكم الأول. ونلاحظ أن الأفعال الثلاثة في الآية مسندة إلى الله: ( ننسخ، ننسها، نأت ) أي أن الله هو الذي ينسخ ما شاء من أحكام آياته، ويبقي ما شاء منها، وإذا نسخ بعضها، فهو الذي يأتي بالدليل الناسخ.
شروط النسخ
وضع العلماء شروطا ً لا بد منها لتحقيق النسخ في القرآن من أهمها:
1- أن يكون المنسوخ حكماً شرعياً ثابتاً بالقرآن أو بالسنة.
2- أن يكون الناسخ دليلاً شرعياً، ثابتاً بالقرآن الكريم.
3- أن يكون الناسخ متراخياً عن المنسوخ.
4- أن يكون بين النصين القرآنيين – المنسوخ والناسخ – تعارض حقيقي بحيث لا يمكن الجمع بينهما، في أي صورة من صور الجمع والتوفيق، كالعموم والخصوص.
5- أن يكون المنسوخ مطلقاً غير متعلق بوقت معلوم، فإذا كان في الآية ما يدل على توقيتها، لا يعد انتهاء وقتها نسخاً. فقوله تعالى: { فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره } سورة البقرة: آية 109. ليس منسوخاً بآيات القتال، لأنه محدد بوقت معين، فالعفو والصفح مستمران إلى أن يأتي الله بأمره، وهو الأمر بالقتال، وعندما أمر الله بالقتال انتهى الأمر بالعفو والصفح.
6- أن لا يكون المنسوخ خبراً، لأنه لا نسخ في الأخبار.
ولقد رفض الإمام السيوطي في كتابه الإتقان في علوم القرآن مبالغة البعض في القول بالنسخ والإكثار منه، وعدّ معظم الآيات التي قيل بنسخها أنها محكمة، ولم يثبت عنده النسخ إلا في عشرين آية فقط، على خلاف في نسخ بعضها، ولا يصح دعوى النسخ في غيرها. وقد يكون المنسوخ في القرآن، وقد يكون في السنة، وقد يكون الناسخ في القرآن، وقد يكون في السنة. والنسخ الوحيد الذي ثبت في القرآن، هو نسخ الحكم، أي أن الله ينسخ أحكام بعض الآيات بآيات أخرى لاحقة، ويبقي ألفاظ الآيات المنسوخة أحكامها في القرآن، يتلوها المؤمنون، ويتدبرونها، ويتذوقون معانيها.
الحكمة من النسخ
الله عليم حكيم، والحكمة تبدو في كل أفعاله وأحكامه سبحانه وتعالى، والحكمة تعني الصحة والصواب والمصلحة. فالله لا يشرع تشريعاً إلا بمقتضى حكمته، وإلا لمصلحة الأمة، ولهذا كان النسخ في أحكام الشريعة مظهراً من مظاهر حكمة الله، وكان لتحقيق المصلحة للعباد، وتقديم الخير لهم. ومن حكمة النسخ التيسير على المسلمين والمؤمنين ورفع الحرج عنهم، وابتلائهم واختبارهم لإظهار فضلهم، وتربية الأمة بالتدرج في التشريع، كالتدرج في تحريم الخمر.
ولعلنا نضع النقاط التالية كملخص لحكمة النسخ:
1- يحتل النسخ مكانة هامة في تاريخ الأديان، حيث أن النسخ هو السبيل لنقل الإنسان إلى الحالة الأكمل عبر ما يعرف بالتدرج في التشريع، وقد كان الخاتم لكل الشرائع السابقة والمتمم له ما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبهذا التشريع بلغت الإنسانية الغاية في كمال التشريع. وتفصيل هذا: أن النوع الإنساني تقلب كما يتقلب الطفل في أدوار مختلفة، ولكل دور من هذه الأدوار حال تناسبه غير الحال التي تناسب دوراً غيره، فالبشر أول عهدهم بالوجود كانوا كالوليد أول عهده بالوجود سذاجة، وبساطة، وضعفاً، وجهالة، ثم اخذوا يتحولون من هذا العهد رويداً رويداً، ومروا في هذا التحول أو مرت عليهم أعراض متبانية، من ضآلة العقل، وعماية الجهل، وطيش الشباب، وغشم القوة على التفاوت في هذا بينهم، اقتضى وجود شرائع مختلفة لهم تبعاً لهذا التفاوت. حتى إذا بلغ العالم أوان نضجه واستوائه، وربطت مدنيته بين أقطاره وشعوبه، جاء هذا الدين الحنيف ختاماً للأديان ومتمماً للشرائع، وجامعاً لعناصر الحيوية ومصالح الإنسانية و مرونة القواعد، جمعاً وفَّقَ بين مطالب الروح والجسد، وآخى بين العلم والدين، ونظم علاقة الإنسان بالله وبالعالم كله من أفراد، وأسر، وجماعات، وأمم، وشعوب، وحيوان، ونبات، وجماد، مما جعله بحق ديناً عاماً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
2- من الحكم أيضاً التخفيف والتيسير: مثاله: إن الله تعالى أمر بثبات الواحد من الصَحابَة للعشرة في قوله تعالى: { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } [ الأنفال:65] ثم نسخ بعد ذلك بقوله تعالى :{ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } [الأنفال:66] فهذا المثال يدل دلالة واضحة على التخفيف والتسير ورفع المشقة، حتى يتذكر المسلم نعمة الله عليه.
3- مراعات مصالح العباد.
4- ابتلاء المكلف واختباره حسب تطور الدعوة وحال الناس.
أقسام النسخ في القرآن الكريم
1- نسخ التلاوة والحكم معاً.: رُوي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما نزل من القرآن:"عشر رضعات معلومات يحرّمن " فنسخن خمس رضعات معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مما يقرأ من القرآن". ولا يجوز قراءة منسوخ التلاوة والحكم في الصلاة ولا العمل به، لأنه قد نسخ بالكلية. إلا أن الخمس رضعات منسوخ التلاوة باقي الحكم عند الشافعية.
2- نسخ التلاوة مع بقاء الحكم.: يُعمل بهذا القسم إذا تلقته الأمة بالقبول، لما روي أنه كان في سورة النور: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالاً من الله والله عزيز حكيم "، ولهذا قال عمر: لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي.
وهذان القسمان: 1- نسخ الحكم والتلاوة 2- نسخ التلاوة مع بقاء الحكم. 3- قليل في القرآن الكريم، ونادر أن يوجد فيه مثل هذان القسمان، لأن الله سبحانه أنزل كتابه المجيد ليتعبد الناس بتلاوته، وبتطبيق أحكامه.
3- نسخ الحكم وبقاء التلاوة.: فهذا القسم كثير في القرآن الكريم، وهو في ثلاث وستين سورة. ومثاله:
1- قيام الليل: المنسوخ: قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا }[المزمل: 1- 3]. والناسخ: قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } [المزمل ـ من الآية20].. النسخ: وجه النسخ أن وجوب قيام الليل ارتفع بما تيسر، أي لم يَعُدْ واجباً.
2- محاسبة النفس.: المنسوخ: قوله تعالى: { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } [البقرة ـ من الآية 284]. والناسخ: قوله تعالى: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } [ البقرة ـ من الآية 286 ].. النسخ: وجهه أن المحاسبة على خطرات الأنفس بالآية الأولى رُفعت بالآية التالية.
3- حق التقوى. فالمنسوخ: قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران من ـ الآية 102]. والناسخ: قوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن ـ من الآية 16]، والنسخ: رفع حق التقوى بالتقوى المستطاعة.
الحكمة من نسخ الحكم وبقاء التلاوة
1- إن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه، والعمل به، فإنه كذلك يُتلى لكونه كلام الله تعالى، فيثاب عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة.
2- إن النسخ غالباً يكون للتخفيف، فأبقيت التلاوة تذكيراً بالنعمة ورفع المشقة، حتى يتذكر العبد نعمة الله عليه.
النسخ إلى بدل وإلى غير بدل
1- النسخ إلى بدل مماثل، كنسخ التوجه من بيت المقدس إلى بيت الحرام: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } [البقرة ـ من الآية 144].
2- النسخ إلى بدل أثقل، كحبس الزناة في البيوت إلى الرجم للمحصن، والجلد لغير المحصن. ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان.
3- النسخ إلى غير بدل، كنسخ الصدقة بين يدي نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم.
4- النسخ إلى بدل أخف: مر معنا في الأمثلة السابقة ( قيام الليل ).
أنواع النسخ
* النوع الأول : نسخ القرآن بالقرآن، وهو متفق على جوازه ووقوعه.
* النوع الثاني :نسخ القرآن بالسنة وهو قسمان.
1- نسخ القرآن بالنسبة الآحادية، والجمهور على عدم جوازه.
2- نسخ القرآن بالسنة المتواترة.
أ- أجازه الإمام أبو حنيفة ومالك ورواية عن أحمد، واستدلوا بقوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ } [البقرة: 180] فقد نسخت هذه الآية بالحديث المستفيض، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " ألا لا وصية لوارث " ولا ناسخ إلا السنة . وغيره من الأدلة .
ب- منعه الإمام الشافعي ورواية أخرى لأحمد، واستدلوا بقوله تعالى: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [البقرة: 106] قالوا: السنة ليست خيراً من القرآن ولا مثله.
* النوع الثالث : نسخ السنة بالقرآن: أجازه الجمهور، ومثلوا له بنسخ التوجه إلى بيت المقدس الذي كان ثابتاً بالسنة بالتوجه إلى المسجد الحرام. ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان.