لمنظومة التكاملية لعلوم القرآن
الكريم
الجزء الأول- القرآن
عن
موقع الدكتور خالد العبيدي
توطأة
لعل المتبحرين في علوم
القرآن الكريم يجدون أنه يرسم لوجة تكاملية من علوم شتى بدءاً من فهم معنى وأسلوب
نزوله وتلقينه وأسلوب قراءته وتدبره، وليس انتهاء بأصناف فنونه
وإعجازه.
ونظراً لأهمية توضيح العلوم القرآنية في موضوع فهم
العلوم الإعجازية المختلفة فقد ارتأينا أن نخصص مسلسلاً كامل نلخص فيه بعض العلوم
القرآنية وتكاملها ووحدتها بدءاً من القرآن أسمائه وصفاته وتنزلاته، الوحي، مروراً
بعلوم القرآن الكريم كأسباب النزول، المحكم والمتشابه، المكي والمدني والصيفي
والشتائي، مراحل جمع القرآن الكريم، علم القراءات والتجويد، علوم التفسير والتأويل
وغير ذلك.
القرآن الكريم هو معجزة
الإسلام الخالدة، أنزله الله تعالى على محمد – صلى الله عليه وسلم – ليخرج الناس من
الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، فكان الرسول – صلى الله عليه وسلم
– يتلقاه من جبريل – عليه السلام – ويبلغه إلى الصحابة – رضوان الله عليهم – وهم من
العرب الخلص، فكانوا يفهمونه بسليقتهم، وإذا التبس عليهم فهم آية من الآيات
القرآنية رجعوا بها إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – وسألوه
عنها.
فكان يجيبهم على أسئلتهم، كما ورد في الحديث الشريف الذي رواه الشيخان
وغير هما عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: { الذين
آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم.....} سورة الأنعام: آية 82
قال : شق ذلك على الناس فقالوا: يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه ؟ قال: إنه ليس
الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: { إن الشرك
لظلم عظيم } سورة لقمان آية: 13 إنما هو الشرك
)).
وختم الله تعالى بهذا القرآن الكتب السماوية التي
أنزلها على رسله، كما ختم بمحمد –صلى الله عليه وسلم – الأنبياء والرسل وامتاز
القرآن عن سائر الكتب السماوية السابقة بأن تولى الله بنفسه حفظه وصيانته فلا يأيته
الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يتطرق إليه تحريف ولا تبديل قال الله تعالى:
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) سورة الحجر آية: 9. وقال تعالى: ( وإنه
لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد
) سورة فصلت آية: 42. وقد جاء القرآن الكريم وافياً بجميع
مطالب الإنسانية، حيث عالج مشكلاتها في شتى مرافق الحياة الروحية والعقلية
والاجتماعية والاقتصادية والسياسية علاجاً حكيماً يتناسب مع الفطرة، لأنه من لدن
حكيم خبير. وقد أتم الرسول – صلى الله عليه وسلم – تبليغه إلى أصحابه ومن ثم إلى
الناس جميعاً.
القرآن
تعريف القرآن لغة واصطلاحاً
القرآن لغة: قرأ تأتي بمعنى الجمع والضم.
والقراءة ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، والقرآن، في الأصل
كالقراءة، مصدر قرأ قراءة وقرأنا. قال تعالى: { إِنَّ
عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
} [ القيامة: 17- 18 ]. أي قراءته. والقرآن على أصح الآراء مصدر
على وزن فُعلان، كالغُفران والشكران.، بمعنى القراءة. مصدر على وزن فعلان
بالضم
القرآن اصطلاحاً: هو كلام الله تعالى المعجز بلفظه ومعناه، المنزل على
النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – المبدوء بسورة الفاتحة المختوم بسورة الناس،
المنقول بالتواتر، المتعبد بتلاوته، المتحدى بأقصر سورة
منه.
وهناك تفصيل آخر يعرف القرآن اصطلاحاً بأنه: هو كلام الله القديم،
المعجز، المُنَزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، المكتوب بالمصاحف، المنقول
بالتواتر، المُُتعَّبد بتلاوته . ومعنى ذلك :
كلام
الله القديم (العقيدة )، المعجز أي أن القرآن معجز بجملته ، كما أنه معجز بأي سورة
منه ، ولو كانت أقصر سورة منه ، ولو عُرِّف القرآن بهذه الصفة " الكلام المعجز "
لكفى ذلك لتمييزه والتعريف به . قال تعالى: { قل لئن
اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم
لبعض ظهيراً } [ الإسراء : 88 ]. ومعنى التواتر (مصطلح
الحديث). وأما معنى المتعبد بتلاوته أي أن مجرد تلاوة القرآن عبادة يثاب عليها
المؤمن .
الفرق بين القرآن
والحديث النبوي والحديث القدسي
يفرق العلماء بين القرآن
الكريم والحديث النبوي بأن القرآن، لفظه ومعناه من عند الله، أما الحديث النبوي
فمعناه من عند الله تعالى ولفظه من النبي – صلى الله عليه وسلم – على الرأي الصحيح
.
والفرق بين القرآن والحديث القدسي بأنهما وإن كان كل منهما لفظه ومعناه
من عند الله على الصحيح إلا أن الحديث القدسي لم يقصد بلفظه التحدي والإعجاز ولم
يتعبد بتلاوته.
فالقول في تعريف القرآن بأنه كلام الله المعجز يخرج الحديث النبوي
والحديث القدسي.
والجدير بالذكر أن القرآن يطلق على مجموع القرآن المكتوب في المصحف
ويطلق على بعضه أي على كل آية من آياته، فإذا سمعت من يتلو آية من القرآن صح أن
تقول: إنه يقرأ القرآن. قال تعالى: { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا
له وأنصتوا لعلكم ترحمون } سورة الأعراف ـ آية
24.
سبب تسمية هذا الكتاب بالقرآن
ذكر
بعض العلماء أن تسمية هذا الكتاب قرآنا ًمن بين كتب الله لكونه جامعاً لثمرة كتبه،
بل لجمعه ثمرة جميع العلوم. قال تعالى: (ونزلنا عليك
الكتاب تبياناً لكل شيء ) سورة النحل: آية 89 .
أسماء القرآن
للقرآن
الكريم أسماء كثيرة أوصلها البعض إلى نيف وتسعين اسما، اعتماداً على إطلاقات وصفات
وردت في بعض الآيات كلفظ ( كريم ) في قوله تعالى: إنه
لقرآن كريم ) سورة الواقعة: آية 77 ولفظ مبارك في قوله
تعالى: (وهذا ذكر مبارك أنزلناه ) سورة الأنبياء: آية 50 لكن المشهور من أسمائه على
الترتيب:- القرآن – الفرقان – الكتاب – الذكر – التنزيل. ومن أسماؤه
وأوصافه:
1-القرآن:إشارة إلى حفظه
في الصدر: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي
هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9]
.
2-الكتاب:إشارة إلى كتابته في السطور: { الم * ذَلِكَ
الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ } [البقرة:1-2 ]
3-الذكر: في قوله تعالى:
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ } [ الحجر: 9 ]
.
4-الفرقان:
إشارة إلى أنه يفرق بين الحق والباطل: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ
لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [ الفرقان: 1] .
أما أوصافه :
1-هدى: في قوله
تعالى: { هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ } [ لقمان: 3 ].
2-نور: في قوله تعالى: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ
نُورًا مُبِينًا } [ النساء: 174
].
3- شفاء: في قوله تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنْ
الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ } [ الإسراء: 82].
4-
حكمة: في قوله تعالى: {
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } [ القمر :
5] .
5- موعظة:
في قوله تعالى: { قَدْ جَاءَتْكُمْ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } [ يونس: 57]
.
6- وحي: في قوله تعالى: { إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ
بِالْوَحْيِ } [ الأنبياء : 45] .
وهناك خمس وخمسون اسماً
للقرآن . راجع: البرهان في علوم القرآن " للزركشي"
نشأة علوم القرآن
وتطوره
استمر الصحابة رضوان الله عليهم – يتناقلون معاني القرآن الكريم وتفسير
بعض آياته على تفاوت فيما بينهم، لتفاوت قدرتهم على الفهم، وتفاوت ملازمتهم لرسول
الله – صلى الله عليه وسلم -، وتناقل عنهم ذلك تلاميذهم من التابعين. وما روى عن الصحابة والتابعين يتناول:
علم التفسير، وعلم غريب القرآن، وعلم الناسخ
والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، إلى غير ذلك مما له صلة بالقرآن الكريم. ويطلق على
هذه العلوم ( علوم القرآن ).
ولقد ظلت علوم القرآن تروى بالتلقين والمشافهة على عهد رسول الله – صلى
الله عليه وسلم -، ثم على عهد أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما
-.
وفي خلافة عثمان بن عفان – رضي الله عنه – بدأ اختلاط العرب بالأعاجم،
فاقتضت الدواعي جمع المسلمين على مصحف واحد فتم ذلك، واجتمعوا على مصحف إمام حيث
نسخ منه عدة مصاحف للأمصار، وأمر الخليفة عثمان – وباتفاق - مع الصحابة حرق كل
ماعداها دفعاً للخلاف والفتنة.
ويمكن القول: أن الممهدين
لعلم التفسير هم الخلفاء الأربعة، وابن عباس، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبيّ بن
كعب، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير. وكلهم من الصحابة –رضوان الله عليهم
– ومما تجدر الإشارة إليه أن ما روى عنهم لا يتضمن تفسيراً كاملاً للقرآن، وإنما
يقتصر على معاني بعض الآيات، بتفسير غامضها وتوضيح
مجملها.
ثم جاء دور التابعين حيث اشتهر منهم جماعة أخذوا عن الصحابة واجتهدوا في
تفسير بعض الآيات وعلى رأسهم: مجاهد بن جبر المكي، وعطاء بن يسار، وسعيد بن جبير،
والحسن البصري، وزيد بن أسلم وعنه أخذ ابنه عبد الرحمن وغيرهم. وهؤلاء جميعاً هم
الواضعون لما نسميه علم التفسير، وعلم أسباب النزول وعلم المكي والمدني وعلم الناسخ
والمنسوخ، وعلم غريب القرآن.
وفي القرن الثاني الهجري
جاء عصر التدوين فألفت كتب في أنواع علوم القرآن وفي مقدمتها التفسير باعتباره أم
العلوم القرآنية لما فيه من التعرض لها في كثير من المناسبات عند شرح الكتاب العزيز
.
أول من كتب في التفسير
يعتبر شعبة بن الحجاج
وسفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح أول من كتبوا في التفسير، وكانت تفاسيرهم جامعة
لأقوال الصحابة والتابعين. وهم من علماء القرن الثاني
الهجري.
ثم تلاهم ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310ه ويعتبر تفسيره من أجل
التفاسير وأعظمها.
وإلى جانب هذا التفسير المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن
الصحابة والتابعين – رضي الله عنهم – نشأ التفسير بالرأي حيث فسر القرآن الكريم
كله.
أما علوم القرآن الأخرى ففي مقدمة المؤلفين
فيها علي بن المديني شيخ البخاري، إذ ألف في أسباب النزول، وأبو عبيد القاسم بن
سلام إذ كتب في الناسخ والمنسوخ. وكلاهما من علماء القرن الثالث الهجري. ثم تتابع
العلماء في التأليف.
ويرى بعض الباحثين: أن اصطلاح (علوم القرآن ) بالمعنى الجامع الشامل لم يبدأ ظهوره إلا
بكتاب البرهان في علوم القرآن لمؤلفه علي بن إبراهيم بن سعيد المشهور بالجوفي
والمتوفى سنة 430ه، ويقع هذا الكتاب في ثلاثين مجلداً.
ثم تتابع العلماء من بعده
حتى عصرنا الحاضر يكتبون ويؤلفون في هذا الفن خدمة للقرآن
الكريم.
ومن أهمهم وأشهرهم ابن الجوزي المتوفى سنة
597ه الذي ألف كتابه ( فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن )، ثم بدر الدين الزركشي
المتوفى سنة 824هـ ألف كتابه ( البرهان في علوم القرآن )، ثم جلال الدين السيوطي
المتوفى سنة 911ه ألف كتابه المشهور (الإتقان في علوم القرآن )
.
ولم يكن نصيب علوم القرآن من التأليف في هذا العصر أقل من العلوم
الأخرى، فقد أقبل كثير من العلماء على تصنيف الكتب حول القرآن وتاريخه وعلومه،
واتجهوا اتجاهاً سديداً في معالجة الموضوعات القرآنية بأسلوب العصر أمثال مصطفى
صادق الرافعي في كتابه إعجاز القرآن، والشيخ محمد العظيم الزر قاني في كتابه مناهل
العرفان في علوم القرآن، بالإضافة إلى مؤلفات أخرى لا يتسع المجال إلى
ذكرها.
تنزلات القرآن
إن القرآن الكريم هو
دستور الحياة الدنيوية والأخروية، شرعه الله تعالى لصالحها، وكان لا بد من واسطة
تقوم بإبلاغ هذا الدستور، حتى يؤتي ثماره، إذ من غير الممكن أن يبلغ الله هذا
الدستور مباشرة لكل فرد فرد، وكان من الممكن أن يتلقى الرسول – صلى الله عليه وسلم
– القرآن عن ربه مرة واحدة، ودون واسطة، كما تلقى موسى – عليه السلام – ألواح
التوراة. وكان من الممكن أن ينزل القرآن الكريم من الله تعالى على جبريل – عليه
السلام – لينزل به على محمد – صلى الله عليه وسلم – دون مراحل لهذا الإنزال.
لكن الثابت أن للقرآن الكريم تنزلات ثلاثة
هي:
الأول:نزوله إلى اللوح المحفوظ، بمعنى إثباته فيه من غير نظر إلى علو وسفل.
وكان هذا الإثبات والوجود في اللوح المحفوظ بطريقة وفي وقت لا يعلمهما إلا الله
تعالى ومن أطلعه على غيبه. وكان جملة لا مفرقاً. والدليل على ذلك قوله تعالى :
{ بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ }سورة البروج: آية 21، 22. وحكمة هذا النزول تعود إلى الحكمة من وجود
اللوح نفسه، فإنه السجل الجامع لما كان وما سيكون إلى يوم القيامة.
الثاني: نزوله من اللوح المحفوظ إلى بيت
العزة في السماء الدنيا، والدليل على ذلك قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر ) سورة القدر: آية
1. وقد جاءت الأخبار الصحيحة مبينة لمكان هذا النزول وأنه في بيت العزة من السماء
الدنيا، كما تدل الروايات عن ابن عباس – رضي الله عنهما – منها على سبيل المثال: ما
أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس -رضي الله عنهما – قال:
( أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان
الله ينزله على رسوله – صلى الله عليه وسلم – بعضه في إثر بعض
)
الثالث: نزول جبريل – عليه السلام – به على
النبي – صلى الله عليه وسلم – منجماً في نيف وعشرين سنة . والدليل على ذلك: قوله
تعالى : { نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من
المنذرين بلسان عربي مبين } سورة الشعراء: آية 193 – 194
). والنزول تفخيم شأن القرآن الكريم، وشأن من أنزل عليه، فإن في تعدد النزول
تأكيداً للثقة فيه ومبالغة في نفي الشك عنه.
والذي يجب الجزم والقطع به: أن جبريل عليه
– عليه السلام – نزل بألفاظ القرآن الكريم جميعها من أول
سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس، وتلك الألفاظ هي كلام الله وحده لا دخل لجبريل
ولا لمحمد – عليهما السلام – في إنشائها ولا في ترتيبها، فا لألفاظ التي نقرؤها
ونكتبها هي من عند الله تعالى.
وليس لجبريل – عليه
السلام – في هذا القرآن سوى إيصاله وحكايته للرسول – صلى الله عليه وسلم – كما أنه
ليس للرسول –صلى الله عليه وسلم – سوى وعيه وحفظه وتبليغه، ثم بيانه وتفسيره، ثم
تطبيقه وتنفيذه.
ولقد نسب الله القرآن إلى نفسه في عدة آيات
منها:{ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءانَ مِن لَّدُنْ
حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [ النمل: 6]. وقوله تعالى: {
وَإِنْ أَحَدُُ مِّنَ الْمُشْرِكيَن اسْتَجَارِكَ فَأَجِرْهُ
حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله } [التوبة :6].
ولعل حكمة نزول القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا تكمن في :
أ- تفخيم أمر القرآن وأمر
من نزل عليه، وذلك بإعلام سكان السماوات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم
الرسل لأشرف الأمم.
ب-
سر يرجع لإعجاز القرآن، في ترتيب القرآن في النزول، ثم
ترتيبه في المصحف، حيث ينظره جبريل في سماء الدنيا وهو على ترتيب المصحف، ثم ينزل بآياته تباعاً على حسب
الحوادث، فتوضع كل آية مكانها في المصحف وفق الترتيب في اللوح المحفوظ
.
وأما حكمة نزول القرآن منجماً من السماء الدنيا
:
أ- تثبت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم وتقوية
قلبه: كما قال تعالى: { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ
فُؤَادَكَ } . [ الفرقان: 32] . فقد بعث الرسول صلى الله
عليه وسلم في قوم جفاة، شديدة عداوتهم، كما قال تعالى: { وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمَاً لُّدّاً } [ مريم:
97]. وكانوا لا يكادون ينتهون من حملة أو مكيدة حتى يشرعوا في تدبير أخرى مثلها أو
أشد منها، فكانت تنزلات القرآن بين الفينة والأخرى تواسيه وتسليه، وتشد أزره
وعزيمته على تحمل الشدائد والمكارة .
ب- مواجهة ما يطرأ من أمور أو حوادث تمس الدعوة: كما قال تعالى:{
وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ
جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } [ الفرقان:
33] وهذه حكمة جليلة لها أثرها البالغ في نجاح الدعوة، لمواجهة الوحي نفسه للطوارىء
والملمات، ومن أهم ذلك ما يثيره المبطلون من الاعتراضات أو الشبهات، وهو الأصل الذي
صرحت به الآية الكريمة : أي لا يأتونك بسؤال عجيب أو شبهة يعارضون بها القرآن
بباطلهم العجيب إلا جئناهم بما هو الحق في نفس الأمر الدامغ لباطلهم، وهو أحسن
بياناً وأوضح، وأحسن كشفاً لما بعثت له.
ج- تعهد هذه الأمة التي أنزل عليها القرآن: وذلك لصياغتها على النهج
الإسلامي القرآني علماً وعملاً، وفكراً واعتقاداً وسلوكاً، تخلقاً وعرفاً. كما قال
تعالى:{ وَقُرءاناً فَرَقنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى
النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ } [ الإسراء: 106]. ومن مظاهر هذا
الجانب أنهم كانوا قوماً أميين لا يحسنون القراءة والكتابة، فكانت الذاكرة عمدتهم
الرئيسية، فلو نزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظه.
د-التحدي والإعجاز.
هـ- تربية للرسول صلى الله عليه وسلم وتصبيره على أذى المشركين، وتثبيت قلوب
المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين.
تنجيم القرآن
الكريم
نزل القرآن الكريم مفرقاً حسب الوقائع والحوادث ومقتضيات الأحوال ،
ويسمي العلماء القطعة التي نزلت دفعة واحدة نجماً ، كأنهم ينزهون القرآن عن لفظ
التقطيع والتفريق ، ويشبهون أجزاءه بالنجوم ، من حيث إن كل نجم له استقلاله ، في
الوقت الذي هو فيه جزء من مجموعة الكواكب .
قال
الإمام السيوطي: الذي أستقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها أن القرآن كان ينزل
بحسب الحاجة خمس آيات وعشر آيات وأكثر وأقل، وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك
جملة، وصح نزول ( غير أولي الضرر ) وحدها وهي بعض آية.
وهذا التنجيم خاص بالقرآن الكريم من بين سائر الكتب السماوية.
وأما حكم التنجيم، فلتنجيم القرآن الكريم –
أي لنزوله مفرقاً على دفعات – حكم كثيرة بعضها يتصل بشخص الرسول – صلى الله عليه
وسلم – وبعضها يتصل بالأمة، وبعضها يتصل بالنص القرآني نفسه أهمها فضلاً عما بيناه
آنفاً:
1. تثبيت فؤاد النبي – صلى الله عليه وسلم –
والدليل على ذلك قوله تعالى: { وقال الذين كفروا لولا نزل
عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً. ولا يأتونك بمثل إلا
جئناك بالحق وأحسن تفسيراً } سورة الفرقان: آية 32-
33.
2.تيسير حفظ القرآن الكريم على النبي – صلى الله
عليه وسلم – وعلى أمته. والدليل على ذلك قوله تعالى: { وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً }
سورة الإسراء: آية 106
3. التدرج بالأمة في تخليهم عن الرذائل، وتحليهم
بالفضائل، والترقي بهم في التشريعات، فلو أنهم أمروا بكل الواجبات ونهوا عن جميع
المنكرات دفعة واحدة لصعب عليهم.
4.مسايرة الحوادث والطوارئ في تجددها وتنوعها فكلما جد جديد نزل من القرآن
ما يناسبه، وفصل الله لهم من أحكامه ما يوافقه.
5. تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين، بسبب ما كان يقصه
القرآن الكريم عليهم من قصص الأنبياء والمرسلين، وأخبار الأمم السابقة، وبيان سنة
الله فيهم.
6. الإشارة إلى مصدر القرآن وأنه كلام الله وحده
وأنه تنزيل من حكيم حميد، فإن القرآن - رغم نزوله مفرقاً - مترابط أقوى ترابط كأنه
عقد تم نظمه بدقة وإحكام تفوق قوى البشر. قال تعالى: { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير }
سورة: هود آية 1 . ولو كان هذا القرآن من كلام البشر وقيل في مناسبات متعددة ووقائع
متتالية وأحداث متعاقبة، لوقع فيه التفكك والانفصام والتعارض وعدم الانسجام. قال
تعالى: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً
كثيراً } سورة النساء: آية 82.
7. التحدي والإعجاز ولما عجب المشركون من نزول القرآن منجماً بين الله لهم
الحق في ذلك، فإن تحديهم به مفرقاً مع عجزهم عن الإتيان بمثله أدخل في الإعجاز،
وأبلغ في الحجة من أن ينزل جملة ويقال لهم: جيئوا بمثله.
أول ما نزل من القرآن
الكريم وآخر ما نزل منه
أصح الآراء في هذا الموضوع أن أول مانزل من القرآن
الكريم على الإطلاق هو صدر سورة العلق { اقرأ باسم ربك
الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما
لم يعلم } آية 1- 5.
والدليل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغير هما عن
عائشة – رضي الله عنها – قالت:
( أول ما بدئ به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الوحي
الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه
الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة - رضي الله عنها – فتزوده لمثلها حتى
فاجأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ، قال رسول الله – صلى الله
عليه وسلم -: فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال:
اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ،
فقلت ما أنا بقارئ، فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: (
اقرأ باسم ربك الذي خلق
)... الحديث. ( مالم يعلم
) فرجع بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ترجف بوادره ).... الحديث .
التحنث: التعبد، وأصله ترك الحنث، أي الذنب،
وغطني: أي ضمني ضماً شديداً، حتى كان لي غطيط، وهو صوت من حبست أنفاسه بما يشبه
الخنق، والجهد: - بفتح الجيم – يطلق على المشقة وعلى الوسع والطاقة، وبضمها: يطلق
على الوسع والطاقة لا غيره.
وأصح الآراء في آخر ما نزل من القرآن الكريم على
الإطلاق قوله تعالى: { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله
ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون .....} البقرة: آية
281 لما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس وسعيد بن جبير: آخر شيء نزل من القرآن:
{ واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله...} الآية . فقد روى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – عاش بعد نزولها
تسع ليال ثم مات.
وقيل:
إن آخر ما نزل هو قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا
اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } سورة
البقرة: آية 278 لما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت آية
الربا.
وقيل:
إن آخر ما نزل قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا
تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه....} سورة البقرة: آية
282 لما روى عن سعيد بن المسيب: أنه بلغه أن أحدث القرآن عهداً بالعرش آية
الدين.
وجمع بين هذه الآراء
الثلاثة بأنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف، لأنها في قصة واحدة، فأخبر كل
عن بعض ما نزل بأنه آخر ما نزل والكل صحيح.
أي إن
:
1-أول ما نزل قوله تعالى:
{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [ العلق:1]. وهذا هو الصحيح.
2- آخر ما نزل: قوله تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى
كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [
البقرة:281] وهذا أقوى الآراء وأرجحها في آخر ما نزل من القرآن مطلقاً.
3- الأوائل والأواخر
المخصوصة :
الأوائل المخصوصة
:
أ- أول سورة نزلت بتمامها
سورة الفاتحة .
ب-
أول ما نزل في تشريع الجهاد: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ
عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ...} [الحج: 39] .
جـ- أول ما نزل في تحريم
الخمر: { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ...}
[البقرة: 219] .
د- أول ما نزل في الأطعمة: { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا...} [الأنعام: 145] .
-الأواخر المخصوصة :
أ
- آخر ما نزل يذكر النساء خاصة: { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ
مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى...}
[آل عمران: 195].
ب- آخر ما نزل في المواريث: { يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ...} [النساء: 176]
.
جـ - آخر سورة نزلت بتمامها:
{ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } [النصر:1] .