بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين
القرآن الكريم عجيب في كل ما يحتويه من بلاغة وحكم وأمثال ومواعظ وقصص وحديث عن الماضي والحاضر والمستقبل ,عجيب بكل سورة وآية بل بكل كلمة وحرف ولا أقول ذلك لأني مسلم ولكن من كان عنده ذوق في اللغة العربية يحس بسحر القرآن الذي لا تفنى عجائبه ولا ينتهي إعجازه.
القرآن الكريم هو المرجع في اللغة العربية وهو آخر الرسالات السماوية التي أنزلها الله تعالى ,قال الله تعالى في محكم كتابه: (الر(1) كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) كل كلمة تذكر في القرآن لها دلائل ومعنى وقصد واضح في التعبير فمن يقرأ القرآن قراءة مستعجلة لا يجد فرق بين كلمات مثل: نعمة ونعيم ,خشية وخوف ,سِلم وسَلم
لقد لاحظت أن بعض المفسرين الذين فسروا القرآن باستعجال لا يفرقون بين هذه الكلمات ويقولون أن هذه مراد فات لها نفس المعنى ولكن أهل البلاغة فرقوا بين هذه المعاني بعد تدقيق وتمحيص. قال الطبري:"عجيب لمن يقرأ القرآن ولا يفهمه كيف يتلذذ به". ومن طرق التلذذ في القرآن معرفة الكلمات المتشابهة في المعنى فهي ليست مراد فات بل إن كل كلمة لها مغزى مختلف عن الكلمة التي تشبهها فلا ترادف في القرآن.
أمثلة على الكلمات المتشابهة في القرآن الكريم:
ميِّت (بالتشديد) وميْت (بالسكون على الياء):
كلمتان متقاربتان ,أما الأولى ميت بالتشديد فقد وردت 12 مرة في القرآن مرفوعة بالتشديد مرتين ومجرورة بالتشديد مرة واحدة بينما الثانية ميْت بالسكون فقد وردت خمس مرات في القرآن بينما ميْتة بالسكون على الياء وردت ست مرات فهل هذه كلها تعني كلمة موت؟ الفرق بين هاتين الكلمتين هو:
الميّت بالشدة مع الكسر تعني هو الشخص الذي فيه روح ولكن سيموت (إنك ميت ُوهم ميتون)أما الميْت بالسكن هو الذي خرجت روحه (أيود أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميْتاً)
إذن ميّت بالتشديد هو الكلام عن حيّ يُخبر أنه سيموت ولكن ميْت هو الحديث عن من مات فعلاً.
مثل آخر: الكُره (بضم الكاف) والكَره (بفتح الكاف(
هما كلمتان متقاربتان في البناء وشكل الحروف وفي المعنى ولكن هناك فرق في الاستخدام: الكُره بضم الكاف وردت ثلاث مرات في القرآن: (كُتب عليكم القتال وهو كٌره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شرٌ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) آية (216) من سورة البقرة
التكليف بالقتال شاق على النفوس فقد تكرهه بعض النفوس خاصة ضعيفيّ الإيمان وقد تتركه بعض النفوس كما أن القتال فيه صعوبة فالجهاد الذي نقصده هنا هو الدفاع عن الأراضي والإسلام ,النفس المؤمنة تنفر للجهاد وتقوم به وتمارسه فهي تريده رغم المشقة لأنه واجب ديني وفيه غيرة لله ورسوله والمسلمين فهو شاق ولكنه مراد لما فيه من الثمار في الدنيا والآخرة ولما فيه من إيجابيات.أما المكان الثاني الذي وردت فيه كلمة كُره بضم الكاف فهو في الآية التالية: (ووصينا الإنسانَ بوالديهِ إحسانا ً حملته أمه كُرها ووضعتهُ كُرها ً) آية (15) من سورة الأحقاف. حمل المرأة بجنينها أمر شاق ومتعب ومرهق فقد يصيبها بالأذى والأمراض وقد تخسر حياتها فيه كذلك في حالة الوضع تكون مُتعبة وعملية الوضع عملية شاقة ومؤلمة ولكن المرأة تستعذب الإنجاب وتتمناه وتريده فتبذل قصارى جهدها كي تحمل وعندما تضع تصرح إنها لن تنجب مرة أخرى لما مرت به من معاناة ولكن سرعان ما تنسى ألمها وتحمل مرة أخرى. إذن كُره بالضمة وصف الشيء الذي فيه مشقة وصعوبة وألم ولكنه مطلوب . أما كلمة كَره بالفتح هو الإكراه وقد وردت خمسة مرات في القرآن الكريم منها: (أفغير دين الله تبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكَرها ًواليه يُرجعون) آية (83) من سورة آل عمران. (ثم استوى إلى السماء وهي دُخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعاً أو كَرها ً قالتا أتينا طائعين) آية (11) من سورة فُصلت. (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا ً وكَرها ًوظلالهم بالغدو والآصال) آية (15) من سورة الرعد.
في هذه الآيات بين القرآن إسلام كل المخلوقات وسجودها لله عز وجل. كَره هنا معناه الإلزام والإجبار والإكراه والقصر فالأمر من خارج النفس وليس من داخلها.فهو الأمر المكروه والمفروض الذي يأتي من الخارج ويحمل طابع الإكراه والقصر فتكرهه النفس.قال أحد العلماء: الكَره هو المشقة التي تنال الإنسان من خارج ذاته وفيه إجبار. الكُره هو ما يناله من ذاته وهو يعافه.
مثال آخر: الأمْن (بتسكين الميم) والأَمَنَة(بفتح الميم)
قد يعتبر البعض أن الاثنان بمعنى واحد وهذا غير دقيق.
الأمْن (بالسكون) هو وصول الأمن والأمان للإنسان.وقد وردت هذه الكلمة خمس مرات في القرآن: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون إنكم أشركتم بالله مالم ينزل به عليكم سلطانا ً فأي الفريقين أحق بالأمْن إن كنتم تعلمون) آية (81) من سورة الأنعام.
هذا التقرير جاء على لسان النبي إبراهيم عليه السلام وهو يتحدث مع قومه حيث بين لهم بعد أن هددوه إن أي الفريقين أحق بالشعور بالأمان هم أم الذين آمنوا ولم يشركوا فالذين آمنوا أحق بأن يشعروا بالأمْن ويتمتعوا به.فقد من الله على المسلمين بقوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمْنا ً) آية (55) من سورة النور.
إذن يزيل الخوف وأسباب الخوف.فإذا كان هناك خوف فزال وزالت أسبابه ووصلنا إلى مرحلة أمان كافية كان هذا معنى الأمْن.
أما كلمة أمَنة فقد وردت مرتين في القرآن في سياق واحد وهي تتحدث عن معارك المسلمين مع الكفار حين يرسل الله تعالى عليهم الأمَنة فتغشاهم كي يثبتهم كالمطر أو النعاس وغير ذلك ففي معركة بدر قال الله تعالى: (إذ يغشيكم النعاس َأمَنَة منه وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت أقدامكم) آية (11) من سورة الأنفال. وكذلك في أحد أنزل الله عليهم نعاسا ً ليزيل خوفهم: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمَنَة نعاسا يغشى طائفة منكم) آية (154) من سورة آل عمران. فجعل الله تعالى النعاس يغشى المؤمنين قبل المعركة أو أثناءها ليزيل الخوف فينامون لأن الخائف والمهموم لا ينام لذا جعل الله تعالى الصحابة في بدر ينامون ليزيل عنهم الخوف وفي أحد لم يستطيعوا النوم من الغم فغشاهم النعاس. وفي أحد لم يستطيعوا النوم من الغم فغشاهم النعاس.
إذن الأمْن هو الأمان الدائم بعد الخوف ويعطي المؤمن سلام واطمئنان. أما الأمَنَة فهو شيء مؤقت في أثناء معركة لإزالة الهم والغم والخوف الذي يزيل النوم ليرتاح المقاتل.
إن التأمل في مثل هذه المعاني يبعث على قراءة القرآن بأسلوب آخر لذا سأعطيكم المزيد من هذه المعاني في حلقات قادمة إن شاء الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.